ما هي حكاية “ناجم السادس عشر”؟
أثير- مكتب أثير في تونس
قراءة: محمد الهادي الجزيري
من الصفحات الأولى التهمتني الرواية، ولم أستطع كبح جماح الضحك الذي انتابني، منتهى الظرف والطرافة والكياسة في أسلوب الكاتب العٌماني محمد بن سيف الرحبي..، تركني بقلمه المبدع أتبع رجلا اسمه ” ناجم ” وكأنّه أحد أقربائي ..، هذا المطلوب من كلّ كاتب فالروايات كثيرة جدّا والقصص بلا عدد، ولكن من يقدر أن يأخذني من حواسي كلّها ويدخلني في عالمه الروائي ..، هذا انطباع أوّلي ..دعوني أتقدّم في هذا المتن السردي الرائع.. ولكم منّي هذه الفقرة المضحكة التي تزخر بالإدانة لكلّ منافق يقول كلاما لا يعيه أو لعلّه يدّعيه ..وهنا يكمن الكذب والنفاق :
” سمع من يريد أن يوصل إليه عبارات محدّدة، أقرب للغمزات تصله بأطرافها الحادّة:
( الله يرحمك يا أبو قطيطة ، ما حدّ كماك كان)، ( الطيّبين والصالحين ما يعّمروا )، ( كان ما تفوته صلاة )، ( ما يقصّر مع أحد الله يرحمه )، ( كان على ذكر الله دايما ) ( رحوم بالترايك1 بو ما يقدر يساعدها يتزّوجها )،( لسانه على الظالم يقصف في الوجه )، يحاول مرهون استيعاب أنّ المقصود هو والده حقّا، ناجم بن حمدان القطّي ”
ومع ذلك لنبدأ من أوّل ..الحكاية متعلقة برجل كبير في السنّ ، تزّوج عديد المرّات وله أبناء كثر وأحفاد بلا عدد..، وهو غريب في أهوائه وميولاته الوطنية واشتغل حارس مدرسة قبل أن يتقاعد ويتطبّب في الأعشاب ..قبل أن يقرّر طرد عائلته من بيته ..كلّها بنسائها وأولادهنّ وأحفادهنّ.. ويبقى وحيدا في البيت ..وتكثر عليه حكايات القرية عن العفاريت والجنّ ..، خلاصة الأمر هذه قصة رجل مزواج طال به العمر حتّى ظنّ الناس أنّ الموت لا يأتي إليه بالمرّة ..، هذا تلخيص جافّ للفصل الأوّل :” في انتظار ممتلئ لفراغ ” إذ لا بدّ من قراءة الرواية لتسقطوا في فخّ الغواية الجميلة التي وقعت فيه بكامل مداركي العقلية …
فهمتُ أنّ ” ناجم ” لأوّل مرّة يسافر في الطائرة ، لأنّه مريض وعليه أن يتداوى، ولأوّل مرّة يعود إلى قريته مسجّى في صندوق في طائرة..، ولكنّ الرواية تزداد غرابة وسريالية حين لا وجود للميّت داخل الصندوق ، كما صرّح بذلك ابنه الأكبر مرهون ” الصندوق ما شيء فيه ” مع العلم أنّه وشقيق آخر شاهدوا فيه صورة كلب وأنّ رائحة رهيبة تنبعث منه وهي لا تطاق ..، لذا وجب دفنه على عجل ..، وفي لحظة خروج الصندوق من البيت ، انفلت خميس أحد أبنائه وأسقط الصندوق الذي انفتح بقوّة الصدمة ..وهنا يقول الكاتب المبدع :” كان على ذات الفراغ الذي أغلق عليه في البيت ” وتتواصل الحكاية في الفصل التالي وهو بعنوان : ” ما حدث قبل ذلك ” ..
إنّها ليست رواية كلاسيكية، بل خرافة توغّل في تفاصيلها الكاتب بالغرائبية العجائبية.. وألّف عالما كما يحلو له وكما يطيب للقارئ ، ..يواصل سرد الحكاية فنقرأ عن سلالة ناجم ما يشيب الصغار ويتلف الكبار ..، فنعلم أنّ الشيخ ” باه عوض ” جدّه الأوّل.. أمرهم بالرحيل ووعدهم بالماء وورّطهم في العسل ..وقطع بهم مسافات طويلة تحقيقا لكلام قاله له في الحلم الخضر عليه السلام ..وصال وجال وأفتى وفعل كلّ شيء ..والأدهى من كلّ ذلك أنّه وجد من يسمعه وينفّذ ما يأمر به ومثال على ما أقول :
” حمل عصاه الخيزران وتبعوه حيث مشى، خطّ بعصاه على الأرض خطّا يدور حول مضاربهم، وقال لهم : ( للهوام ما وراء هذا الخطّ، ولكم ما أمامه، فاتّقوها تتّقكم، ولا تنالوا منها في بقعتها حتّى لا تنال منكم في بقعتكم ”
يحاول محمد بن سيف الرحبي إدانة هذا العالم بإسقاط عالمه الروائي عليه، فعندما يريد إبداء رفض سلطة ما، متعجرفة وصمّاء يلجأ إلى سخرية لاذعة وضحك ( لكنّه كالبكاء ) كما قال المتنبي، فمثلا يقول على لسان الشيخ ” باه عوض ” حين يحدّثهم ويقنعهم بكلامه حول توزيع الثروة ..بمنتهى الجشع وحبّ مرضي للأنا :
” ..العائد سنوّزعه بالعدالة التي أراها ”
نهاية الفصل ..يموت الشيخ ويرثه ابنه مبارك الذي أصبح وليّا صالحا، ويتزوّج ابنة إمام القرية المجاورة بعد أن نادمه ليلة واكتشف كراماته المذهلة ..، فنحن في حضرة مؤسس للقرية مرة ثانية بعد المؤسس الأول أبوه المتوفي .. إذ صعد بمستوى القرية أعلى من والده ” وكان عليه أن يقيم له مجدا آخر “، وعليه أشياء كثيرة سيقوم بها في الفصل القادم : ” ما روي عن سيرة حارة مبارك ” …
ويتواصل السرد الممتع ..سليمان أحد أحفاد الفتيان الستّة حاصدي العسل..، أراد أن ينال المشيخة ..وطلب ذلك من ناجم فهو الكبير في القرية وهو حفيد ” باه عوض ” ، لكن هذا الأخير اشترط أن يكون أعمى ككلّ من سبقوه وقال له :
” مائة وخمسون عاما لم يستلم المشيخة إلا أعمى، ولن ينالها غير أعمى ”
وبغتة تحوّل سليمان حادّ النظر إلى كفيف ..وصار يبكي راجيا أن يعود للرؤية من جديد ، لكنّ ناجم أسعفه بجملة :
” حينما ترجع عن المشيخة سيرجع إليك بصرك، المشيخة تحجب البصر يا سليمان، فجرّب إلى أين ستصل يا راعي العسل، والمال سينسيك البصر والبصيرة ”
حديث طويل ومشبع بالضحك الصعب في هذا الزمن ..، سليمان وهو يوزّع الكهرباء على أهالي القرية ..ويريهم الثلاجة وما تستطيع فعله ..ويحدّثهم عن المكيّف العجيب وكيف يبثّ الهواء البارد داخل البيت .. واحتراق السيارة التي أهدتها له الحكومة ..بفعل فاعل ..، ومن ثمّ يتطرّق السارد إلى الهجرة الجماعية من بيت ناجم باستثنائه هو الذي رفع رأسه بثقة ..، أمّا عائلته فنزحت بالقرب من جدّه الأوّل في حين أمسى كبير العائلة طبيبا يخلط أعشابا جبلية مع بعض الحبّات ويبيعها في زجاجات ..، وقد قال لجاره حمدون …، حين طلبه بإيصاله للمطار ..وسأله الجار المذهول ” لماذا السفر ” :
” سرّ ستعرفه في وقته، سأحرق أكباد هؤلاء الذين هجروني جميعا، أبقوني عشرين سنة ولم يسأل عنّي أحد منهم، سيعرفون ..”
والأكيد أنّكم سادتي القراء متطلعون إلى ما سيجري في الفصل المقبل المعنون” ما حدث بعد ذلك ”
شقيقان من نسل ناجم يسافران إلى الهند بحثا عن جثمان والدهما ..، الحقيقة إنّ التفاصيل كثيرة ..منها فراغ صندوق الميّت وسقوطه على الأرض وخروج الثعابين منه واجتماع ذكور العائلة لبحث الأمر.. وغير ذلك من الضحك العالي ..، والمهمّ أنّ الشقيقين حدسا أنّ جثة والدهما أخذتها عائلة أخرى ، أو أنّها أُحرقت على عادة الهندوس ..وفي الصباح التاسع عشر جاءهما خبر أنّ أباهما في مكّة ولا يريد يعود ( يريد أن يمضي بقية حياته هناك، ويموت ويُدفن في البقيع ) …
في الفصل الأخير ” الصلاة الأخيرة ” يتشعّب خبر ناجم القطّي ..فمنه أنّه في مكة وآخر يقول أنّه انضم إلى تنظيم داعش ..وقالوا: أنهم رأوه ضمن الفرقة الشعبية العُمانية في كوريا الجنوبية ..والكلام مباح ..ثمّ يأتي خبر آخر أنّه مات في حادث سير في أبوظبي وتختلط الأمور والأقاويل ..، ما أقوله أنا :
كأنني أنهيت رواية من أمريكا اللاتينية حيث السحر والشعوذة والعجب العجاب.. وطوبى لعُمان بكاتبها الفذّ المبدع الأخاذّ ..محمد بن سيف الرحبي، وإنّي أعدكم أن أقرأ كلّ ما كتبه فهو يستحقّ ذلك …بل يستحقّ أكثر