في ذاكرة الفلسطينيين الطويلة مع مآسي التشرد والنزوح، تبقى هناك أحداث لا تُنسى، تفرض حضورها في مشهدية الوجدان من حين لآخر. فالعدوان الثلاثي عام 1956 مثلًا اضطرّنا للنزوح إلى مواصي رفح بعد اقتحام الجيش الإسرائيلي للمخيم. ورغم صِغر سني آنذاك كطفل، إلا أن تفاصيل تلك الواقعة ما تزال حاضرة في ذاكرتي، وقد أيقظتها لاحقًا حرب 1967 وما شهدناه خلالها من نزوح آلاف الفلسطينيين إلى مناطق أكثر أمنًا قرب شاطئ البحر غربي المخيم.
كانت أيامًا بالغة القسوة والصعوبة عشناها كنازحين بلا طعام ولا شراب ولا أمان. واليوم، ما أشبه الليلةَ بالبارحة! فالسابع من أكتوبر وما تلاه من حرب إبادة وتهجير قسري هو حدث لا يُمحى من الذاكرة الفلسطينية، مهما تباينت حوله الآراء والتقديرات في الداخل والخارج.

إن من أبجديات التحليل السياسي القول إن الفلسطينيين سيتوزعون في مواقفهم بين من يبرر ويدافع بقوة عن معركة طوفان الأقصى باعتبارها عملًا بطوليًا فرضته الضرورة، وبين من يلوم وينتقد، وآخرين يقفون حائرين لا يدرون ماذا يقولون أو يفعلون.
وبرأيي، كانت معركة السابع من أكتوبر مغامرة غير محسوبة العواقب، بُنيت على تقديرات خاطئة وفهم منقوص لطبيعة التحالفات الدولية وموازين القوى. واليوم، وبعد مرور عامين، ومهما كانت النتائج، تبقى الحقيقة المؤلمة أن أكثر من مليوني فلسطيني فقدوا كلَّ شيء، وتشردوا في العراء. وأغلب هؤلاء، وهم يعيشون مآسي النزوح، يلقون باللوم على حركة حماس، وهو لوم يمكن تفهّمه، بينما يرى بعض أنصارها وكوادرها أن ما جرى كان استباقًا لضربة إسرائيلية معدّة سلفًا، أرادت من خلالها حكومة نتنياهو واليمين الصهيوني المتطرف تنفيذ مشروع التهجير القسري.

وهناك من يجادل بأن ما حدث، رغم الكارثة، قد حقق مكاسب على المستوى الاستراتيجي، أبرزها إعادة القضية الفلسطينية إلى صدارة الاهتمام الدولي، وتزايد الاعترافات بالدولة الفلسطينية، فضلًا عن التحول اللافت في الرأي العام الغربي، وخاصة في أوروبا وأمريكا، حيث باتت المطالبة بإنهاء الاحتلال وإيجاد حل عادل للفلسطينيين أكثر حضورًا في الخطاب السياسي والإعلامي.

ولا شك أن صور الإبادة الجماعية وما رافقها من مشاهد مأساوية ستغذي الذاكرة العربية والإسلامية بعداءٍ متجدد لإسرائيل، وتجعل من التطبيع الرسمي معها – في نظر الشعوب – خطيئةً لا تُغتفر. إن مخططات نتنياهو واليمين الصهيوني لتغيير خريطة الشرق الأوسط وأحلام “إسرائيل الكبرى” لن تتحقق، وستبدو لكل متابعٍ أنها مجرد محاولة يائسة لزرع البذور في الهواء. بل إن إسرائيل، على الأرجح، ستواجه عزلة إقليمية ودولية متزايدة، بينما ستحظى القضية الفلسطينية بتعاطفٍ واحتضانٍ غير مسبوق في العالم، وخصوصًا في أوروبا.

أما حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، فمصيرها إلى سقوطٍ محتوم، وربما يُحسم مستقبل نتنياهو السياسي في أروقة القضاء الإسرائيلي، مع ترجيحات بانتهاء حكمه بسجنه على خلفية قضايا فسادٍ سابقة للحرب على غزة.

ونحن نعيش الذكرى الثانية لتلك الأحداث، وسط مخيمات النزوح التي لا تتجاوز مساحتها 30% من قطاع غزة، نحيا بلا مقومات كرامة؛ نستجدي الطعام والدواء والماء، في خيام مكتظة لا تحفظ سترًا ولا خصوصية. أما المساعدات الإنسانية، فقد أفرغتها إسرائيل من معناها، وحولتها إلى مصائد موت، تستدرج الشباب وتغتالهم بدمٍ بارد أمام عدسات الصحفيين. ومن نجا منهم عاد ليروي لأهله مشاهد الرعب التي عايشها، مقابل كيس طحين أو طردٍ غذائي يسد الجوع ليومين أو ثلاثة.

ويظل السؤال المُلِحّ: ماذا بعد وقف حرب الإبادة؟
ما ملامح اليوم التالي؟
ما مستقبل حماس التي يُراد شطبها من الخريطة السياسية؟
وما موقع السلطة الوطنية ومنظمة التحرير في المشهد القادم؟
ثم ما جدوى الحديث عن دور توني بلير كمندوب سامٍ للإشراف على ترتيبات ما بعد الحرب؟ وهل يمكن أن تنجح مثل هذه الصيغة في تحقيق الأمن والاستقرار وإعادة الإعمار في غزة؟

في تقديري، ستكون مصر صاحبة الدور الأبرز في صياغة مستقبل اليوم التالي، وفي رعاية المصالحة الفلسطينية الداخلية، خصوصًا أن المواجهة القادمة مع الاحتلال ستتخذ طابعًا سلميًا يستلهم تجربة جنوب أفريقيا في مقاومة نظام التمييز العنصري (الأبارتهايد).
ولأن لمصر تاريخًا طويلًا في إدارة شؤون غزة بعد النكبة الأولى عام 1948، وصلاتها الوثيقة بالرئيس محمود عباس وبالسلطة الوطنية، وانفتاحها على مختلف الفصائل، فإنها مؤهلة لتكون الفاعل المركزي في رسم ملامح المستقبل الفلسطيني، سواء في ملف الإعمار أو إعادة بناء المؤسسات الوطنية.

إن الخطوة الأكثر أهمية تتمثل في الإسراع بجمع شمل الفلسطينيين، وهو ما يجعل من المصالحة بين الرئيس أبو مازن والنائب محمد دحلان فرصة ثمينة لترميم البيت الفتحاوي وإعادة التوازن للمشروع الوطني. فالنائب دحلان، بثقله التنظيمي والتاريخي، وبعلاقاته العربية الواسعة – خصوصًا مع الإمارات والسعودية – وعلاقاته المتفاهمة مع حماس، قد يكون الطرف الأكثر قدرة على إدارة المرحلة القادمة في قطاع غزة.

أعتقد أن مصر ستسعى جادة إلى تحقيق علاقة أكثر توازنًا بين جميع الأطراف الفلسطينية، فالمصلحة الوطنية العليا تقتضي استعادة الوحدة الفتحاوية وترميم العلاقة بين الرئيس عباس ودحلان. إن تقليص دور توني بلير كـ”وصي استعماري” مرهونٌ بقدرة الفلسطينيين على التوحد خلف منظمة التحرير الفلسطينية بوصفها الإطار الجامع والشرعي للشعب الفلسطيني، والانطلاق منها لبناء توافق وطني يواكب المتغيرات الإقليمية والدولية ويستثمرها لصالح قضيتنا.

أما فصائل العمل الوطني والإسلامي، فيمكنها أن تواصل نضالها من خلال تأسيس أحزاب سياسية تلتزم بالثوابت الوطنية والمبادئ الجامعة التي تقوم عليها منظمة التحرير، لتكون مظلة تمثيلية موحدة تقود الفلسطينيين نحو مرحلة جديدة من النضج السياسي والعمل المؤسسي.

شاركها.