مقايضة المصالح: ترامب والواقعية السياسية…
مع أن رؤية نظرية «الواقعية الجديدة» لتركيبة النظام الدولي، وطبيعة العلاقات الدولية، تعرّضت منذ تحوُّل النظام الدولي إلى أحادي القطبية لموجة مستمرة من الانتقادات، التي تتضمن اتهامها بالتحيز باتجاه الدول العظمى والكبرى، والاختزال لدور بقية الدول، إلا أن مجريات الأحداث منذ عودة ترامب للرئاسة الأميركية، تعزز هذه الرؤية، وتثبت أهمية الأسس التي تقوم عليها.
تقوم «الواقعية الجديدة» على خمسة أسس أساسية. أولاً، أن عالم السياسة الدولية يعاني من الفوضوية الناجمة عن غياب جهة منظِّمة؛ حكومة عالمية مركزية، مكلَّفة ومؤهلَّة لضبط إيقاع العلاقات الدولية وفرض السلم العالمي. ثانياً، بسبب هذا الغياب، يتحكم الصراع على المصادر المحدودة بالعلاقات الدولية، التي تحركها مصالح الأطراف المتناحرة، وتغيب عنها الاعتبارات الأخلاقية، كون تحقيق المصلحة هو غاية تتفوق على أي اعتبار. ثالثاً، تشكّل الدول أساس تركيبة النظام الدولي، وأهم فواعله، ولكن الهيمنة عليه تتمركز عند الدول العظمى والكبرى منها، التي يتحكم ما يجري بينها من تفاعلات؛ تنافسية وتوافقية، بطبيعة العلاقات الدولية الناشئة. رابعاً، لا حماية للدولة في عالم فوضوي إلا بالاعتماد على نفسها، ولا هدفاً أسمى لها من الانشغال الدائم بتعظيم قوتها، إذ إن مهمتها الدائمة في عالم تتضارب فيه المصالح، ومسكون بالريبة والشك بنوايا الآخرين، تتمثل ليس فقط بالاستعداد للحرب، وإنما القيام بكل ما تستطيع لتعزيز إمكانية فوزها بها عندما تقع. خامساً، إن أفضل ما يمكن الحصول عليه في هذه الحالة من الاضطراب الدائم في وضعية العالم، هو نظام دولي هشّ، يتحقق فيه السلم العالمي عبر معادلة توازن قوى يتحقق بموجبها ضمان مصالح متبادلة بين أطراف الدول العظمى والكبرى. ولكن هذه المعادلة ليست قطعية أو ثابتة، بل متحولة بفعل ما يطرأ على قوة هذه الدول من تغيرات، تؤدي لحدوث اختلال في الميزان، ينتج عنه فتح الصراع الكامن، الذي يعود لينتهي، ليستقر النظام على وضعية جديدة، بعد أن يجري التوصل إلى تفاهم جديد.
يتشكّل النظام الدولي حالياً من هرم تتربع على قمته دولة عظمى واحدة، هي أميركا التي تتمتع بفائض قوة اقتصادية وعسكرية لا يضاهيها حتى الآن أحد، ودولتان كبريان، هما الصين صاحبة ثاني أكبر اقتصاد عالمي، ولكن بمحدودية قدرة عسكرية تتنامى بسرعة، من جهة، وروسيا، المارد العسكري بفعل ترسانتها النووية، ولكن القزم الاقتصادي بالمقارنة مع أميركا والصين. يتبع هذه الثلاثية مجموعة محدودة من الدول القوية، منها المرتكز على مكانتها المتراكمة من الماضي، كدول أوروبا الغربية، ومنها الصاعدة في أقاليمها والساعية لتثبيت مكانتها الجديدة، كالهند والبرازيل. أما الطبقة القاعدية من الهرم فتمتلئ ببقية الدول المحدودة التأثير على الصعيد الدولي، المطحونة والمنهمكة في البحث عن دور لها يساعدها على صدّ التدخلات الخارجية والمحافظة على الذات.
منذ الإطاحة بثنائية القطبية الدولية مع مطلع التسعينيات، وروسيا تحاول جاهدة استعادة ما يمكن من مكانتها الدولية المهدورة مع انهيار الاتحاد السوفياتي. ولكن أميركا التي تفرّدت بالنظام الدولي لم تقلقها كثيراً المحاولات الروسية، إذ اعتبرتها محدودة التأثير على مكانتها، لضعف القدرة الاقتصادية الروسية، إذا ما قورنت بما تشكّله لها الصين من تهديد فعلي، لما تمتلك من قوة اقتصادية كبيرة. لذلك، تركّز الاهتمام الأميركي منذ مطلع الألفية على احتواء الصين، المنافسة الرئيسية لها، وذات الإمكانية الحقيقية القادرة على تقويض مكانتها، ومقاسمتها قمة النظام الدولي، إن لم يكن إزاحتها بالكامل عنها. وفي إطار هذا المثلث من الصراع غير المتساوي الأضلاع، يمكن فهم سياقات العلاقات الدولية الحالية، وما يجري في مناطق العالم المختلفة من إعادة للتموضعات الأميركية.
بعد أن كال الاتهامات لإدارة بايدن بتقويض مكانة أميركا الدولية، والتسبب بتراجع قدرتها على حسم الصراع الثلاثي لصالحها، عاد ترامب للرئاسة متسلحاً، وهو واقعي التوجه بامتياز، برؤية «أميركا أولاً»، وعاقداً العزم على استعادة المكانة المتفردة لبلاده. ومع أنه يقوم منذ استلامه للمنصب باتخاذ إجراءات وخطوات تبدو وكأنها غير متناسقة أو متسقة مع بعضها، تأتي في إطار سياسة فوضوية لا هدف محدداً لها، إلا أنها في الواقع تصب جميعها في مسرب واحد، هو تحصين أميركا داخلياً لمواجهة الصعود الصيني، وتعزيز قدرتها الخارجية للحد من استمرار تمدد الصين في أرجاء العالم.
لتحقيق هذا الهدف، ومن منطلق إيمانه المطلق بأن الصراع وليس التعاون مع الآخرين هو مرتكز العلاقات الدولية، وأن الاعتماد على القوة هو الأساس المحدِد للمكانة على الصعيد الدولي، يقوم ترامب بحملة مكثفة لإعادة ترتيب الوضع الداخلي للدولة الأميركية، بما يتضمنه ذلك من محاربة الهجرة غير الشرعية، و»تطهير» للبيروقراطية وتقليص مصروفاتها» لتتماشى مع رؤيته باستعادة أميركا لقوتها الذاتية.
أما خارجياً فهو يتبع عدة مسارب. الأول، فرض تعرفة جمركية على الأطراف المتاجرة مع بلاده، غير آبه بالعلاقة التقليدية القائمة مع الحلفاء والشركاء التجاريين التقليديين، الذين يتهم البعض منهم بتسريب المنتجات الصينية للسوق الأميركي. والثاني، تحسين وضعية بلاده الدفاعية بمطالبته بالسيطرة على قناة بنما وجزيرة جرينلاند وكندا، والتي حققت له حتى الآن انسحاب بنما من مشروع الصين المسمى «مبادرة الحزام والطريق»، واستعداد السلطة الذاتية لجرينلاند والدنمارك لفتح مباحثات لتوسيع القاعدة الأميركية في الجزيرة. والثالث، حسم الصراع في الشرق الأوسط لمصلحة إسرائيل، وتحجيم مكانة ودور إيران الحليفة مع الصين، وضمان المصالح الأميركية في المنطقة، وتحقيق استقرارها وتبعيتها من خلال توسيع تطبيع العلاقات العربية – الإسرائيلية. والرابع، خلخلة التحالف الروسي – الصيني، بإنهاء الحرب الروسية – الأوكرانية لصالح روسيا، واستمالة روسيا للانعطاف غرباً، بإعادة تطبيع العلاقات معها، ورفع العقوبات لاحقاً عنها.
لأن النظام الدولي، وفقاً «للواقعية الجديدة»، يتحدد حالياً بناء على العلاقة بين الثلاثة الكبار، لم يأبه ترامب بموقف الصين الذي كان يعلم بأنه سيبقى محصوراً في دائرة التنديد التقليدي، أو بموقف الأطراف العربية التي لا يوليها الكثير من الأهمية والاهتمام، عندما أعلن عزمه طرد الفلسطينيين من قطاع غزة، وإعادة توطينهم في مصر والأردن، بل وضع العبء عليهم لتقديم خطة بديلة له، بعد أن نصّب نفسه المرجعية لقبولها أو رفضها. أما روسيا ذات المصلحة القديمة في المنطقة، معبرها للمياه الدافئة، فبعد أن خسرت وجود الأسد في سورية، وما تزال تئن تحت وطأة حربها المستمرة في أوكرانيا، فقد فتح معها حواراً ابتدأ في الرياض، مستغلاً تضعضع وضعها، ليعقد معها صفقة مباشرة رابحة لكلا الطرفين، دون أدنى اهتمام بإشراك حلفاء أميركا الأكثر التزاماً وأهمية، وأصحاب الشأن من الأوكرانيين والأوروبيين، بل باستثنائهم، والقفز على مصالحهم. فمصلحة أميركا فوق كل اعتبار، وطالما أنها الدولة الأقوى، فإنه يستطيع أن يفرض إرادته على التابعين، الذين لن يكون أمامهم سبيل سوى اتّباع مسار الاسترضاء.
الاجتماع الذي حصل بين وزيري الخارجية الأميركي والروسي في الرياض مثير للاهتمام، كونه يشكّل انعطافة تنبئ بإغلاق مرحلة توتر بين قطبين دوليين، وبداية شق الطريق لمرحلة جديدة. وعندما يحصل ذلك بين «الكبار»، على الآخرين الأقل قوة ومكانة في النظام الدولي، القلق لأنهم من سيدفعون ثمن «صفقة المقايضة» التي سيتم بموجبها إعادة ترسيم معالم تبادل المصالح بين الطرفين. فإن كانت روسيا تريد الاحتفاظ بأرض احتلتها بالحرب من أوكرانيا، وترامب مستعد من أجل تفكيك تحالفها مع الصين أن يمنحها الحق في ذلك، فكيف لروسيا أن ترفض ما يعتزم ترامب أن يقوم به من اعتراف بضم إسرائيل لأراضٍ فلسطينية، وتحديداً في الضفة الغربية؟! لقد كان مثيراً للانتباه غياب المبعوث الأميركي الرسمي لأوكرانيا عن اجتماع الرياض، وحضور المبعوث الأميركي للشرق الأوسط له. والمثير بصورة أكبر هو إجابة المتحدث باسم الكرملين عن استفسار حول الموقف الرسمي بشأن «مشروع» ترامب لقطاع غزة، بأن طالب بالتريث لحين جوانب منه لا تزال مبهمة!
يذكرنا «اجتماع الرياض»، وما سيليه وينجم عنه من ترتيبات، بمؤتمر يالطا الذي انعقد عام 1945، وضم أميركا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي، وأدى في نهاية المطاف إلى تقسيم أوروبا لمناطق نفوذ بين الأطراف. الفرق بين ما حدث حينئذ وما يحدث الآن، أن الصين، القطب الثالث في النظام الدولي الحالي، هي المستهدفة حالياً مما سيتم بين أميركا وروسيا من مقايضة للاسترضاءات.
أما الدرس المستخلص من كل ذلك فهو أن الحروب ليست هي المهمة في ترسيم، أو إعادة ترسيم، العلاقات الدولية، أو حتى الإقليمية، مهما اشتملت عليه من مآسٍ وأهوال. بل المهم هو ما ينتج عما يرسي عليه ميزان القوى الناشئ بفعلها من تسويات.
لذلك لا تتسرعوا بإطلاق الأحكام، والتنازع مع بعض بشأنها، فعما قريب ستتضح معالم التسوية، وينكشف الغطاء، ويغلق الباب على استمرار التكهنات.
هذه هي الحقيقة الصلبة للـ «الواقعية الجديدة»: القوة هي الأساس، ومصالح «الكبار» تعصف دائماً بحقوق «الصغار».