مقاييس غزية..أ.د. طالب أبو شرار
منذ فجر الحضارة، أدرك الإنسان حاجته الملحة الى وحدات قياسية مرجعية ينسب اليها ما يتبادله من سلع أو ما يقطعه من مسافات أو ما يمضي من زمن. في البدايات المتواضعة ولقياس المسافة، استخدم المصريون القدماء وحدة الذراع ومشتقاته من القدم والكف والإصبع في حين استخدم البابليون والآشوريون الشبر والفرسخ. لم تكن تلك الوحدات قياسية بالمعنى العلمي، ولذلك كان لا بد من اعتماد وحداتٌ قياسية تُنسب اليها أيةُ قيمةٍ خاصة بهذه الصفة أو تلك. على سبيل المثال ووفق المقياس الدولي للوحدات، فإن مرجعية كتلة أي مادة هي وحدة الجرام الذي يعرف قياسيا بأنه كتلة الماء في سم مكعب عند درجة 4 مؤية فنقول عشرة جرامات ذهب أو مئة جرام فضة أو ألف جرام أي كيلوجرام من الخبز. وبنفس المنطق، هناك وحدات مرجعية لكل عنصرٍ أو عاملٍ من عوامل الطاقة أو المسافة أو السرعة وهكذا دواليك. مثلا، هناك تعريفٌ قياسي للجهد الكهربائي هو الفولت وهناك وحدة قياسية للطول وهو المتر الذي يعرف على أنه المسافة التي يقطعها الضوء في الفراغ التام في جزء من 299,792,458 من الثانية. حتى الزلازل تم اعتماد وحدة مرجعية لها، أهمها وأكثرها تداولا هو الريختر. لقد اخترع الإنسان تلك االمفاهيم كي يستطيع قياس أي صفة بمفهوم موحد عابر للزمان والمكان والثقافة الإنسانية فالجرام هو الجرام في الهند وفي البرازيل تماما كالأمبير وهو وحدة التيار الكهربائي.
وعلى الجانب الآخر من اهتمامات الإنسان، كان هناك وما يزال كم هائل من الأوصاف النفسية والعاطفية التي تحتاج الى معاير كمية لقياسها. لم يحاول أحد من العاملين في المجالات النفسية (وهي مجالات علمية صرفة) أو الإنسانية والعاطفية (وهي في الغالب حقول في الأدب كالقصة والشعر) اقتراح مقياس كمي يعبر عن واحدة من تلك الحالات. كان ذلك لأسباب عدة ربما أهمها الافتقار الى تنميط مثل تلك السلوكيات بحيث يصبح من الممكن اشتقاق أجزائها أو مضاعفاتها. مثلا، للمتر أجزاء محددة المقدار مثل سم وملمتر ومايكرومتر كما أن له مضاعفات مثل كيلومتر وديسي متر وميجا متر. المقصود بالتنميط هنا هو إمكانية تجزئة أو تعظيم الصفة بمقادير كمية متناقصة أو متزايدة تماما كما هو الحال بخصوص الوحدات المستخدمة في المجال العلمي أي أنه ليس هناك وصف لنصف شجاع أو نصف جبان أو ضعف هذا أو ذاك فضلا عن التباين المكاني أو الزماني في تعريف الشجاعة أو الجبن. للتوضيح، من يصفه قومٌ بالشجاع قد يصفه قومٌ آخرون بالجبن لسببٍ بسيط هو الركون الى مفهوم الأبيض والأسود حدا فاصلا لكل القيم الإنسانية فالشجاعة يقابلها الجبن، والكرم يقابله البخل، والحِلم يقابله النَزق فليس هناك أي تدرج في الصفات، إمَا هذا أو ذاك. على سبيل المثال، يقال إن فلانا كان هائجا كالثور أو وديعا كالحمل أو سخيا كحاتم الطائي. تفتقر مثل تلك الأوصاف الى وحدات قياسية تجعل من الممكن لمن يقرأ هذا الوصف أو ذاك أن يطور في وعيه إدراكا محددا لتلك الحالة. فالثور الهائج يتفاوت هيجانه من منتهى العدائية التي تدفعه الى تحطيم كل شيء يعترض طريقه الى ما دون ذلك بكثير، تماما كما هو حال الشجاعة أو الكرم. للتوضيح، هناك أبطال كُثرٌ في تاريخنا منهم على سبيل المثال عنترة بن شداد وصخر بن عمرو (أخ الخنساء) ووائل بن ربيعة وجساس بن مرة وخالد بن الوليد والقعقاع بن عمرو التميمي وآلاف غيرهم. ورغم اتفاقنا على بطولاتهم إلا أننا نعجر عن تصنيف تلك البطولات بأسلوب يمكننا من القول إن هذا كان أكثر بطولة من ذاك. وعليه، تبدو الحاجة ملحة الى تطوير مقاييس كمية نصنف بواسطتها كل الصفات الإنسانية بأسلوب يمكننا، على الأقل في هذه المرحلة، من الجزم بأن هذا كان أكثر كرما أو رجولة أو حلما أو فداء من ذاك. هنا، تتجسد المعضلة في افتقارنا الى تلك الوحدة القياسية المرجعية التي ننسب اليها أي صفة نرغب في تقنينها. يعود ذلك بالدرجة الأولى الى غياب الوعي الإنساني بالحالات القياسية التي يدركها الجميع بغض النظر عن ثقافاتهم أو ولاءاتهم فالأبطال في تاريخنا ليسوا ذات الأبطال في تاريخهم وكذلك هو الأمر فيما يتعلق بالصفات الأخرى.
وبناء على ما تقدم ومن باب العرفان ببطولات أهل غزة، فإن حجم معاناتهم وبسالتهم وصبرهم وشجاعتهم ومكابدتهم الطغيان الصهيوني وكل من يقف خلفه كانت مشاهد موثقة رآها العالم صوتا وصورة. مثل تلك المشاهد هي بحد ذاتها مرجعيات إنسانية تخلق وعيا مشتركا على امتداد شعوب العالم يمكننا أن ننسب اليه معظم الصفات الإنسانية. لقد تجاوز الغزيون كل المـديات المعروفة إنسانيا في كل تلك الفضاءات وهم بذلك وضعوا مرجعيات للبشرية يصح أن تقاس عليها كل الحالات المشابهة في تاريخ الأمم. في هذه الحالة يمكننا أن نستخدم تلك البطولات وأخواتها قيما مرجعية نقيس عليها صفات الآخرين لنقول، مثلا، عن هذا الشخص أو ذاك لقد حقق 70% من بطولات شعب غزة أو نقول عن شعب واجه حصارا عاتيا أنهم حققوا 40% من صمود أهل غزة. يعني ما سبق أن لا أحد في التاريخ الإنساني قد حقق إنجازا لم يحققه أهل غزة أي أننا نعطي سابقات ولاحقات غزة من الأحداث الكبرى أرقاما قد تعادل أو تقل عن القيم المناظرة التي سجلتها غزة. ليس هناك في التاريخ الإنساني حالات تناظر حالات الأمهات اللائي فقدن كل أسرهن في القصف الهمجي الإسرائيلي الممتد زمنيا خمسة عشر شهرا على بيوت المدنيين في غزة؟ بل إن هناك أسرا أبادها الصهاينة عن بكرة أبيها؟ إن الحديث عن الحالات المرجعية لا ينتهي فهناك قصة الطبيب الفلسطيني الذي حاول انقاذ ابنه الجريح ببتر ساقه بدون تخدير فمات ابنه بين يديه وهناك صور للأطفال المحروقين أو الأشلاء الإنسانية المتطايرة الى عنان السماء بفعل القنابل الصهيونية الأمريكية أو للآباء أو الأمهات الذين يحتضنون بكل ما أوتوا من قوة جثامين أطفالهم في لحظات الوداع الأخيرة. لقد عرف العالم بأسره صورة الجد “خالد النبهان” الذي يحتضن حفيدته ريم “روح الروح” ويداعبها كما لو كانت حية ترزق. لقد قضى هو لاحقا ليلتحق بحفيدته! هناك صور لا حصر لها تخص ضحايا الجوع والبرد والعطش والأمراض والجرحى الذين ينتظرون الموت بصمت بلا علاج وبلا رعاية طبية أو إنسانية.
لو فكرنا قليلا سنجد أن كل بطولات الأمم تتضاءل أمام بطولات أهل غزة وأنه من غير الإنصاف أن نترك مفردة البطولة أو البسالة أو التضحية أو الفداء أو الإصرار بدون مقاييس تكون مرجعياتها بطولات غزة. بعد غزة، تتضاءل أساطير البطولة والصمود التي استحوذت على عقولنا في الماضي من أمثال صمود ليننجراد في الحرب العالمية الثانية أو طروادة التي خلد اسطورتها شاعر اليونان القديم هوميروس. لقد سقطت كل تلك الملاحم الأسطورية أمام أسطورة غزة. كان لتلك المدن دفاعات عتية وكانت ترفدها من الخارج إمدادات ومقاتلون يعززون من صمودها، أما غزة فلم تكن لديها أسوار منيعة سوى إرادة أهلها وبسالة مقاتليها ولم تتوفر لها إمدادات غذاء أو كساء أو حتى ماء من الخارج. لقد حجب الجميع عنك العون ياغزة بل منعوا خروج الجرحى للعلاج. ورغم الأذى، حتى من ذوي القربى، لم تشتكي سوى لله. لم تتذمري أو تلومي قريبا أو غريبا على خذلانك. لقد انتصرت ياغزة في ملحمة لم يشهد لها التاريخ مثيلا. لقد انتصرت على كل الأمم الغربية الإستعمارية بما في ذلك الحلم الصهيوني العنصري الإحلالي الفاشيستي المجرم الذي أطحت به الى الأبد وأذنت بذلك ببداية نهايته. كل الحديث الذي تتناقله وكالات الأنباء اليوم عن تهجير سكانك ليس سوى هذيان ستعصف به ريحك العاتية. لقد أشعلت يا غزة جذوة الإنسانية عبر العالم حتى في قلب المجتمعات التي أوغلت حكوماتها في دم أبنائك. باختصار، لقد غيرت العالم يا غزة وإن أبسط الوفاء هو أن ندخلك تاريخ المجد من أوسع أبوابه باعتمادك مرجعية لكل القيم الإنسانية السامية.
مفكر عربي