في السابع من هذا الشهر، قدمت الولايات المتحدة مُقترحاً مكتوباً لمجلس الأمن لاستحداث ما أسمته بقوة استقرار دولية مسلحة، تدخل غزة مع بداية العام القادم وتبقى فيها لمطلع العام 2027. هذه القوة وفق المُقترح ستكون تحت إشراف «مجلس السلام» الذي سيرأسه الرئيس ترامب وفق خطته ذات العشرين بنداً، وهي ستتمتع بالصلاحيات التالية: نزع سلاح المنظمات، الإشراف على إدخال المساعدات الإنسانية لغزة، إعادة الإعمار، تدريب قوة شرطة فلسطينية، وحفظ أمن إسرائيل.
توجه إدارة ترامب لمجلس الأمن لم يكن بِناء على رغبتها، فلقد كانت حريصة دائماً على إبعاد الأمم المتحدة عن أية مسألة متعلقة بالقضية الفلسطينية، لأن القانون الدولي واضح لجهة ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ولمسؤوليته عن كل الجرائم التي يرتكبها فيها. لكن يبدو أن الذهاب لمجلس الأمن كان نتيجة رفض غالبية أو جميع الدول لإرسال جنودها لغزة دون تفويض واضح من الأمم المتحدة لطبيعة هذه القوة ومهامها: هل هي قوة حفظ سلام تحت البند السادس لميثاق الأمم المتحدة، أم قوة فرض سلام تحت البند السابع منه؟  
الأولى تتطلب موافقة جميع أطراف الصراع على عملها بما فيها المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال (كما هو حال اليونيفيل في لبنان)، وهي لا تستطيع استخدام السلاح إلا للدفاع عن نفسها، وهدفها المراقبة ورفع التقارير لمجلس الأمن، لكن يمكنها الاشراف على إدخال المساعدات وإعادة الإعمار لأنها في النهاية قوة لحفظ السلام.
الثانية لا تتطلب موافقة أطراف الصراع على عملها، وهدفها فرض «السلام» بالقوة وفق الصلاحيات المخولة بها بما فيها الاشتباك مع المقاومة لنزع سلاحها، حماية الحدود والسيطرة عليها، وهي مسؤولة عن فرض النظام والقانون وإدارة المناطق التي تدخلها.
من المؤكد أن الأولى لا تُحقق للولايات المتحدة ما تريده من قوة الاستقرار، أما الثانية فهي تتعارض مع رفض بعض الدول العربية والإسلامية لاستخدام القوة المسلحة ضد المقاومة الفلسطينية، وحتى مع رغبة إسرائيل في التفرد في تقرير مصير الأراضي الفلسطينية التي تحتلها (غزة والضفة) بالإضافة الى أنه يتعارض مع رغبتها في أن تكون الجهة التي سَتقرر من يتواجد من الدُول في غزة.
بعض السياسيين يقترح أن تتمتع هذه القوة بصلاحيات أعلى مما يسمح به الفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة وأقل مما يَسمح به البند السابع، على غِرار قوات الأمم المتحدة في مالي وهايتي وجنوب السودان والتي يُمكنها تأمين بعض المواقع الحيوية، دعم الشرطة المحلية، تنفيذ عمليات أمنية محدودة، الإشراف على دخول المساعدات الإنسانية وإعادة الإعمار، لكن دون الدخول في حرب مباشرة مع أي طرف.
وبعيداً عما تريده الولايات المتحدة وإسرائيل، فإن السؤال المطروح هو ما إذا كانت هناك مصلحة فلسطينية لوجود قوة دولية في غزة. هل يخدم هذا هدف إنهاء الاحتلال للأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة معاً؟
لقد طالب الفلسطينيون في السابق الأمم المتحدة بإرسال قوات دولية لحمايتهم في أكثر من مناسبة. الرئيس الراحل ياسر عرفات مثلاً طالب بإرسال قوات دولية للأراضي الفلسطينية في شهر أيار من العام 1990 لحماية الفلسطينيين وممتلكاتهم ولمساعدتهم على إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لأرضهم، وكرر ذلك مرار خلال تلك الحِقبة بما في ذلك خلال اجتماع طارئ لمجلس الأمن في شهر تشرين الثاني 2000 وخلال مؤتمر صحافي في حزيران 2001، ولقد كرر نفس الدعوة لاحقاً الرئيس عباس في أكثر من مناسبة بما في ذلك خلال كلماته التي ألقاها في اجتماعات الجمعية العمومية السنوية.
لكن هنالك فرقاً بين ما طالب ويُطالب به الفلسطينيون وبين ما تدعو له الولايات المتحدة: الفلسطينيون يريدون قوة لحمايتهم ولإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، والولايات المتحدة تريد قوة لحماية دولة الاحتلال وحرمان الفلسطينيين من ممارسة أبسط حقوقهم بتمثيل أنفسهم، وبأن يكون لهم كلمتهم في تقرير مصيرهم.
لذلك علينا الانتباه للملاحظات التالية عند الحديث عن إرسال قوات لحفظ الاستقرار في غزة:
أولاً، إن دخول قوة دولية لغزة بمعزِل عن الضفة، هو تكريس لفصل غزة عن الضفة، وإقرار أن من يقرر مصير الضفة هو قوة الاحتلال وليس الشرعية الدولية. إن ما يتعرض له الفلسطينيون في الضفة الغربية من أعمال قتل يومي واعتقالات وتدمير للممتلكات ومصادرة للاراضي وتقييد للحركة والعمل، هو نسخة مصغرة مما يتعرض له الفلسطينيون في غزة من حرب إبادة.
لقد ارتكب جيش الاحتلال ومستوطنوه أكثر من 2350 اعتداء بحق الفلسطينيين في الضفة في شهر تشرين الأول الماضي لوحده، وقاموا بهدم ما يزيد على 3700 منشأة فيها منذ السابع من تشرين الأول 2023 بما فيها هدم 1288 منزلاً مأهولاً، وهنالك عشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين فقدوا مساكنهم خلال الاجتياحات الإسرائيلية للمخيمات الفلسطينية في الضفة.  
وبالتالي فإن المصلحة الفلسطينية هي في دخول قوات دولية الى كل الأراضي الفلسطينية (غزة والضفة بما فيها القدس الشرقية) لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لها، ولا مصلحة للفلسطينيين في دخول قوات دولية لغزة وحدها لخدمة الاحتلال، بينما تبقى يداه مُطلقتين في الضفة يفعل بها ما يشاء.
ثانياً، سيكون من الحماقة الموافقة على قوة «سلام» من صلاحياتها تجريد المقاومة من سلاحها لأن «المقاومة» هي حق مشروع بموجب القانون الدولي وقرارات الجمعية العامة التي تؤكد حق الشعوب الخاضعة للاستعمار، أو الاحتلال الأجنبي، أو الأنظمة العنصرية في النضال من أجل تقرير المصير بجميع الوسائل المتاحة (اُنظر قرارات الجمعية العام قرار 1514  في العام 1960) الذي يؤكد حق كل الشعوب في تقرير المصير، وشرعية النضال ضد الاستعمار؛ وقرار 37/43 (1982) الذي يؤكد شرعية كفاح الشعوب من أجل الاستقلال بجميع الوسائل المتاحة). ونتساءل هنا عن المصلحة الفلسطينية بالتخلي عن حق يتمتع بشرعية دولية.
إن الأصل هو سحب سلاح المستوطنين الذين يعيثون في الضفة فساداً وإجراما، حيث وزع عليهم «بن غفير» أكثر من 120 ألف قطعة سلاح منذ بداية طوفان الأقصى، هذا عدا عن عشرات الآلاف من قطع السلاح التي كانوا يمتلكونها سابقاً لذلك.
ومن حقنا أن نتساءل أيضاً، لماذا يطالب الرئيس ترامب بتجريد الفلسطينيين من سلاح هدفه الدفاع عن النفس وإنهاء الاحتلال، بينما يدافع عن حصول المواطنين الأميركيين على السلاح (يوجد بين أيدي الشعب الأميركي «وليس الجيش الأميركي» أكثر من 400 مليون قطعة سلاح – إحصائيات العام 2018 – تتسبب في مقتل عشرات الآلاف سنوياً من الأميركيين). إن منطق تَسييد دولة الاحتلال على الفلسطينيين (والعرب) غير قابل للتحقيق، ولقد أثبتت معركة طوفان الأقصى ذلك، فدولة الاحتلال ما كان بإمكانها الصمود في هذه المعركة بدون الاسناد الأميركي والغربي الدائم.
ثالثاً: إن أي قوة دولية تدخل لغزة والضفة يجب أن تكون مرجعيتها الأمم المتحدة وليس مجلساً تشرف عليه أميركا. الأخيرة هي شريكة لدولة الاحتلال في جرائمها، وبالتالي لا يُمكن الثقة بها أو الاعتماد عليها. إن مصلحة الفلسطينيين تتطلب الخروج من هيمنة أميركا وإسرائيل على مستقبل الفلسطينيين، ولا يكون ذلك بقبول قوة دولية تحت إشراف أميركي (إسرائيلي)، ولكن قوة دولية تحت إشراف كامل من مجلس الأمن تقوم بتنسيق عملها في غزة والضفة مع منظمة التحرير الفلسطينية أو جهة فلسطينية تعتمدها المنظمة بعد التشاور والاتفاق مع الفصائل الفلسطينية كافة.
إن ما تم نَقله عن اتصالات بين مسؤولين أميركيين   وجماعة ياسر أبو شباب، للتأسيس لسيطرة جماعة إسرائيل على المناطق المُحتلة داخل منطقة الخط الأصفر، هو مؤشر على ما ستقوم به إدارة ترامب إذا ما ترأست ما أسمته بمجلس السلام وحصلت له على الصلاحيات التي تريدها من مجلس الأمن: إنهم يريدون صناعة جيش لحد في غزة لخدمة الاحتلال ولا مصلحة للفلسطينيين في ذلك.
وفي نفس السياق، إن ما يقال في الإعلام الإسرائيلي عن ضرورة استسلام المقاتلين الفلسطينيين في المناطق التي تحتلها إسرائيل في غزة، أو عن خروجهم دون أسلحتهم الى المناطق غير الخاضعة لسيطرة الاحتلال، او عن ترحيلهم الى دولة ثالثة، هي جميعها اقتراحات لا تتوافق مع المصلحة الفلسطينية وتتعارض أصلاً مع وقف إطلاق النار المُعلن. الاستسلام وتسليم السلاح سيكون سابقة لم تحدث خلال معركة طوفان الأقصى وهدية نصر للاحتلال الذي فشل في تحقيق أيٍ من أهدافه خلال عامين من الحرب؛ والترحيل لدولة ثالثة هو تنفيذ لهدف مُعلن بطرد الفلسطينيين من أرضهم (تذكروا أن مُبعدي كنيسة المهد العام 2002 لم يُسمح لهم بالعودة الى الآن).   
رابعاً: إن أي دولة تشارك في قوة الاستقرار، يجب أن تكون من الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية، لأن المُفترض أن هذه القوة ستؤسس لقيام الدولة فلسطينية على الأراضي التي تحتلها إسرائيل، وبالتالي لا مصلحة فلسطينية بوجود قوات أميركية ضمن هذه القوة لا على الأرض (في غزة والضفة) ولا في الإشراف عليها من الخارج. الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية تجاوزت عتبة المائة وخمسين دولة، ولا يحتاج الفلسطينيون لأميركا أو ألمانيا أو أي دولة لم تعترف بدولتهم ليكونوا جزءاً من قوة الاستقرار المقترحة. إن عدم اعترافهم بالدولة الفلسطينية هو مؤشر واضح على انحيازهم لدولة الاحتلال، وبالتالي فإن وجودهم في هذه القوة سيكون لخدمة الاحتلال وليس لتحقيق السلام.
باختصار، دخول قوة دولية للأراضي الفلسطينية هو شيء جيد لإنهاء الاحتلال، لكن شريطة أن تدخل هذه القوة لكامل الأراضي الفلسطينية التي احتلتها إسرائيل منذ العام 1967 (وليس لغزة وحدها)، وألا يكون هدفها قتال الفلسطينيين ولكن لمساعدتهم على وضع نهاية للاحتلال، ولحمايتهم من همجية جيش الاحتلال ومستوطنيه، وأن تكون مرجعيتها مجلس الأمن وليس الإدارة الأميركية، وأن تنسق عملها مع منظمة التحرير الفلسطينية، وأن تكون فقط من الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية وليس من خارجها. بخلاف ذلك، ستكون أية قوة تدخل غزة هي قوة احتلال، لا تختلف عن إسرائيل.

شاركها.