ملاحظات عن صناعة الرأي العام (٢ من ٢)
العامل الآخر، وربما الأهم، الذي ساهم في صياغة الرأي العام الأردني هو الإعلام.. سنوات طويلة ظل الأردنيون خاضعين تماماً للإعلام الرسمي، إلى جانب الإعلام المجتمعي الذي ظل محتكراً بيد جماعة الإخوان المسلمين، سواء بالصحف والمجلات (التي كانت تطبع في مصر والكويت)، أو بمنابر المساجد ودور القرآن والجمعيات الخيرية والمؤسسات التابعة للجماعة، كان الإعلام الإخواني نشطاً ومؤثراً بصورة عميقة لدرجة يمكن القول بأن العقل الجمعي الأردني تمت صياغته على يد الإخوان إلى حد كبير، خاصةً إذا أضفنا إلى ما سبق هيمنة الإخوان على وزارة التربية لعقود طويلة، وإشرافها على المنهاج التعليمي، كل هذا حصل وتم دون منافس، فكل الأصوات والأحزاب والتيارات الأخرى كانت مقيدة ومقموعة، أو ظلت هامشية ونخبوية.
وفي الموضوع الذي نتناوله هنا، يمكن إضافة تأثير قناة الجزيرة، والتي هي الأداة الإعلامية الأهم لجماعة الإخوان، والأكثر شعبية في متابعة ما يجري في غزة من حرب إبادة وتهجير.. وقد واصلت الجزيرة كل ما بدأه إعلام الإخوان منذ نشأتهم، ولكن بأدوات وتقنيات أحدث وأكثر تأثيراً..
وما يجدر ذكره هنا أن النظام السياسي الأردني وجماعة الإخوان ظلا في حالة تعايش وتناغم وتخادم وتبادل مصالح منذ أربعينيات القرن الماضي (كما هي الحالة مع قطر الآن)، وإن حصلت تحولات معينة مؤخراً.
هذا التعايش أو التخادم استفاد منه الطرفان: استفادت الدولة حيث لجأت للجماعة كحليف إستراتيجي في مواجهة الأزمات السياسية والاقتصادية التي ألـمّت بالبلد طوال العقود الماضية، حيث كانت الجماعة تخلق الرأي العام الموالي أو المحايد، أو تصرفه باتجاه قضايا أخرى (بعضها مهم، وبعضها غير مهم)، المهم هو امتصاص نقمة الشارع وحرف البوصلة عن القضايا الأهم .. أما الجماعة فكانت تستفيد بكسب المزيد من الشعبية والحضور السياسي، والفوز في الانتخابات.
ومن أبرز تجليات «الإسلام السياسي» وخطابه، ظاهرة «التدين الحزبي»، والتي تؤثر على المجتمع بظهور «التدين الشكلي»؛ والتدين الشكلي يزدهر عادة في المجتمعات الضعيفة، حيث يبدأ عمل أحزاب الإسلام السياسي، التي ستستغل تلك البيئة لاستخدام الدين كأداة سلطوية لإعادة هندسة المجتمع، والتحكم بالأفراد، وكورقة ضغط في الصراعات السياسية، ووسيلة للظفر بالسلطة.. وتدريجياً يصبح التدين عند الكثيرين عبارة عن طقوس اجتماعية، أو عادات فردية، دون التزام حقيقي بجوهره ومضامينه الإنسانية، والاكتفاء بالمظاهر الخارجية.
وعند وصول الفرد والمجتمع إلى «التدين الشكلي»، ستحدث تغيرات نفسية ومسلكية وتمظهرات اجتماعية عديدة، أبرزها: تقديم الفرد تنازلات شخصية للمجتمع، مثل تقييد حريته الشخصية للتكيف مع المجتمع (المتدين) من حوله، وبالتالي تقييد حرية تفكيره، أو إلغاء عقله، ولا أقصد هنا التسليم بالغيبيات، بل المقصود تأجير عقله لرجل الدين (وفي الحالة التي نتحدث عنها سيؤجر عقله للخطباء والمؤثرين والقادة الحزبيين)، الذين سيفكرون عنه، وفي المحصلة سيتحول من إنسان حر، محلق، مبدع إلى سجين للجماعة، أو للسلطة السياسية التي تسيّره بصفته عضواً فيها (الجماعة، أو الطائفة، أو الحزب)، ليفقد فردانيته وخصوصيته وتميزه لصالح الجماعة والمجتمع والسلطة، أي بعبارة أخرى تحوله من فرد حر مفكر إلى شخص منقاد، وجزء من قطيع، وخاضع لِـ «ديكتاتورية الغوغاء».
والتدين الشكلي يفرز الحالات المتطرفة والمتزمتة والمتعصبة، لأن التشدد سيكون الأداة التعويضية عن الشعور بالدونية والعجز والقهر المسلط على المواطن من قبل الدولة والمجتمع. التشدد والتزمت يمنح الشخص الضعيف والمهزوز والمهزوم والمقهور شعوراً طاغياً بالقوة، ويعوضه عن كل مركبات النقص التي يعاني منها.
وإلى جانب التعصب والتشدد وتعبيراً عنهما سيلجأ هذا المواطن المقهور إلى الطائفة (ولأن الأردن لم يعرف الطائفية كما عرفتها دول الجوار) كان اللجوء إلى العشيرة.. لكن العشيرة قد تجد له حلاً لمشاكل معينة، وتعوضه عن قدر معين من القهر، وتوفر له قدراً من الأمان.. لكنها ستعجز عن توفير أهم ما ينقصه: الشعور بالعزة والكرامة الوطنية والقومية.. فالعشيرة والمجتمع والدولة ومجموع الدول العربية عاجزة عن مواجهة إسرائيل، ومهزومة تاريخياً وحضارياً، وعاجزة عن تحقيق أي نصر ولو كان بسيطاً.. ومن هنا صار الحل الأمثل إيجاد بقعة ما توفر له هذا الشعور، وتمنحه حالة من النشوة والعزة (حتى لو كانت متخيلة)، وهذا المكان كان بالصدفة قطاع غزة. كما كان قبلها عراق صدام حسين في حربه مع الغرب الاستعماري. وكما كان قبلها عبد الناصر، أو بعده حسن نصر الله، وأي زعيم أو حالة تمارس المواجهة وتخوض المقاومة بالنيابة عن جماهير الأمة العاجزة والمقموعة والغارقة في همومها الخاصة.
وهذا يفسر لماذا كانت ترى «المثلث الأحمر» فقط، وتتجاهل رؤية أكوام الردم، وطوابير الذل وأشلاء الشهداء.. لذلك، كان من البديهي تأييد الحالة التي تمثلها غزة، طالما أنها تعوض الشعور بالهزيمة والقهر، وتمنح ذلك الشعور بالكرامة، ويجب ألا تتوقف هذه الحالة، حتى لو أبيدت غزة عن بكرة أبيها!
وهكذا لم يعد «التدين الشكلي» مجرد وسيلة الأفراد للتحايل على الذات وعلى الآخرين، بل صار أداة تعويضية تعفيهم من عذاب الضمير، ومن الشعور بالعجز، وتمنحهم شعوراً متخيلاً بالنصر والكرامة..
والتحليل السابق لا يخص الأردن فقط، ولا «الإخوان المسلمين» وحدهم، بل أجده ينطبق أيضاً على أحزاب اليسار والحركات القومية والليبرالية التي أيضا تعرضت لهزيمة وانتكست وعجزت عن تحقيق أهدافها، وأصابها التكلس والخواء، ووجدت فيما يحدث في غزة أداة تعويضية عن هزيمتها وعجزها..
فمن الظواهر اللافتة للنظر تماهي أحزاب يسارية ونخب مثقفة علمانية تقدمية وليبرالية وكوادر متقدمة في «فتح» مع ثقافة الإسلام السياسي بشقيه (السُـنّي والشيعي) تحت شعار دعم وتبني «المقاومة». لم يكن هذا التماهي واضحاً قبل سنوات، وربما كان مختبئاً وموارباً، لكنه بعد هجمات 7 أكتوبر بات واضحاً ومثيراً للتعجب، حيث ينبري قادة يساريون وأساتذة جامعات وكتّاب وصحافيون وحتى نخب ليبرالية للدفاع عن أطروحات حركات الإسلام السياسي (المتناقضة مع قيم التقدمية واليسار والعدالة الاجتماعية والحريات والحقوق الفردية وقضايا المرأة والمجتمع والوطنية والمواطنة..)، والدفاع عن سياساتها وقراراتها المغامرة (التي تتجاهل المعادلات السياسية القائمة، وموازين القوى، ولا تقيم وزناً للخسائر البشرية وتضحيات الشعب وحجم الدمار).