في تلك الأيام التي كانت السماء تمطر نارًا، والأرض تضيق بأهلها، كنا نرى في كل زاوية من غزة مشاهد الألم والصبر، لكننا كنا نرى أيضًا ومضاتٍ من إنسانيةٍ نادرةٍ تضيء العتمة. ومن بين تلك الومضات، كان حضور اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC) علامةً فارقة في الذاكرة والوجدان.

منذ أن كنت أعمل مستشارًا سياسيًا لرئيس الوزراء إسماعيل هنية، كانت لي علاقة متواصلة مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر (ICRC)، ومتابعة دقيقة لأنشطتها في قطاع غزة. وقد وجدت في طاقمها من الرجال والنساء تفانيًا صادقًا في أداء رسالتهم الإنسانية، سواء في تفقد أحوال الأسرى داخل سجون الاحتلال أو في تواصلهم الدائم مع عائلاتهم لمعرفة احتياجاتهم ونقل رسائلهم. وكنا في الحكومة نُثمن تلك الجهود ونعبّر لهم دائمًا عن شكرنا وتقديرنا لما يبذلونه من عطاءٍ وإنسانيةٍ خالصة.

وخلال حرب الإبادة على قطاع غزة، كان حضور اللجنة الدولية لافتًا ومؤثرًا. فقد عمل أفرادها في الميدان بصمتٍ وشجاعةٍ وسط ظروفٍ قاسية، وساهموا في توفير الغذاء والبطانيات واحتياجات النازحين، من أبسط الضروريات إلى أشدها إلحاحًا. وحتى “التكية” التي كانت تُشرف عليها مؤسستنا الخيرية في المخيم، لم ينسها طاقم اللجنة، فقدموا لها الدعم اللازم لتواصل تقديم الطعام يوميًا لآلاف النازحين والجائعين.

غير أن الدور الأهم الذي يستحق التوقف عنده، هو ما قامت به اللجنة الدولية في الوساطة والمفاوضات الإنسانية، خاصة في ملف تبادل الأسرى والرهائن بين حماس وإسرائيل. فقد سهّلت إطلاق سراح 160 رهينة ونقلهم من قطاع غزة إلى عائلاتهم، كما تولت تسهيل إطلاق سراح 3,472 معتقلًا فلسطينيًا من السجون الإسرائيلية وإعادتهم إلى ذويهم، سواء كان ذلك ضمن اتفاقات تبادل أو بقرارات أحادية الجانب. كما نقلت جثامين 28 رهينة إلى الجانب الإسرائيلي، و270 جثمانًا فلسطينيًا إلى غزة، بما يعكس التزامها العميق بالكرامة الإنسانية حتى في أدق اللحظات مأساوية.

وإلى جانب هذا الدور الحساس، استقبلت اللجنة الدولية خلال فترة الحرب وما تلاها أكثر من 17,000 طلب من عائلات تبحث عن ذويها المفقودين، واستطاعت حتى يوليو 2025 إبلاغ نحو 5,000 عائلة بمصير أحبّتهم وأماكن تواجدهم. وهي أرقام تعبّر عن حجم المأساة، لكنها أيضًا تشهد على جدّية الجهود الإنسانية التي لا تعرف الكلل.

أما على صعيد الإغاثة الطبية والغذائية، فقد كانت جهود اللجنة واسعة وشاملة: فقد قدمت مساعدات أساسية لنحو 151,000 فرد معرض للخطر، وأنشأت 314 فرنًا طينيًا في 50 مركز إيواء أنتجت أكثر من 37 مليون رغيف خبز، وقدمت مستلزمات منزلية لأكثر من 2 مليون نازح داخليًا، شملت البطانيات والمياه والقماش المشمع ومواد النظافة والملابس وحافظات الطعام. كما تم توفير الدعم الطبي الطارئ عبر فرق جراحية متخصصة في المستشفيات الميدانية، أجروا عمليات عامة وترميمية وعظام، وقدموا جلسات دعم نفسي واجتماعي وإعادة تأهيل بدني للمصابين، مع توفير كراسي متحركة وأجهزة مساعدة، والمشاركة في تطوير بروتوكولات وطنية للعناية بالجروح والطوارئ الطبية.

لقد تركت اللجنة الدولية للصليب الأحمر، عبر حضورها الإنساني المستمر، بصمةً واضحة في الوعي الجمعي لأبناء غزة. فهي بالنسبة لنا ليست مجرد مؤسسة دولية تؤدي واجبها المهني، بل شريكٌ حقيقي في التخفيف من معاناتنا وصون كرامتنا في أحلك المراحل. وما شهدته بنفسي خلال عملي الحكومي، وما رأيته في أيام الحرب من تفانٍ ومروءةٍ ميدانية، يجعلني أؤمن بأن الصليب الأحمر سيبقى في ذاكرة الغزيّين عنوانًا للحياد النبيل، وصوتًا نادرًا للضمير الإنساني الذي لم يُصبه العمى أمام المأساة.

وفي زمنٍ يغلب عليه الصمت والتواطؤ، يظل الخير ممكنًا ما دامت هناك قلوبٌ تنبض بالرحمة، وعزائمُ تؤمن بأن الإنسانية لا تموت.
وكما قالوا: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه.

شاركها.