من الرماد … ما مستقبل غزة؟ أوليفر ماك تيرنن..
مدير مركز “التفكير للأمام FT” للدراسات الاستراتيجية لندن ترجمة: معهد بيت الحكمة
من الصعب أن نقرر من أين نبدأ حين نحاول أن نتأمل الأشهر الأربعة عشر الماضية التي شهدنا فيها الحرب الأكثر تدميراً في تاريخ غزة الحديث.
أذكر أنه في صباح السابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2008، عندما شنت إسرائيل عملية الرصاص المصبوب، أو حرب غزة في الفترة 20082009، كان من المقرر أن أكون في غزة في ذلك الصباح نفسه للقاء مفاوضي حماس على أمل التوصل إلى اتفاق نهائي لإطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الشاب جلعاد شاليط، كنت في طريقي إلى المطار في الليلة السابقة، عندما تلقيت مكالمة من كبير المفاوضين الإسرائيليين يطلب مني تأجيل رحلتي، وعلمت بعد ذلك أن إيهود أولمرت، الذي كان رئيساً للوزراء في ذلك الوقت ويواجه إعادة انتخابه في الشهر التالي، قد اقتنع باستخدام الضغط العسكري بدلاً من الاستمرار في المفاوضات لتأمين إطلاق سراح الأسير الإسرائيلي، ولكن الخيار العسكري أثبت أنه مكلف للغاية، واستغرق الأمر ثلاث سنوات أخرى لتأمين إطلاق سراح جلعاد شاليط في مقابل أكثر من ألف أسير فلسطيني.
عندما شن رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي بنيامين نتنياهو حرب غزة الحالية في أكتوبر/تشرين الأول 2023 رداً على الهجمات غير المسبوقة التي شنها مسلحو حماس على المستوطنات الإسرائيلية على طول الحدود مع غزة، أعلن نتنياهو عن هدف مزدوج يتمثل في القضاء على حماس والتفاوض على إطلاق سراح الرهائن، ولا يتطلب الأمر الكثير من الخبرة في المفاوضات لإدراك أن هذان الهدفان متعارضان، فمن غير الواقعي أن تقول لشخص ما إن هدفك الحقيقي هو ضمان إبادته، ولكنك في الوقت نفسه ترغب في التوصل إلى بعض الترتيبات المؤقتة بحيث يمكن إطلاق سراح أولئك الذين يحتجزهم. وفي رأيي، أكد العام الماضي على ما كان ينبغي أن يكون الدرس المستفاد من حرب غزة في عامي 2008 و2009، فالضغوط العسكرية لا تؤدي إلا إلى تعزيز إرادة المقاومة، ونتيجة لذلك فإنها تؤخر العملية الحتمية المتمثلة في التفاوض على إنهاء العنف، واستعادة الرهائن.
منذ ديسمبر/كانون الأول 2008، شهدت خمس عمليات عسكرية كبرى/حروب في غزة. وقد خلفت كل منها ندوبها وذكرياتها التي انتقلت، ومن المفترض أنها ستستمر، إلى الأجيال القادمة. وليس لدي أي وسيلة للتحقق من الإحصائية التالية، ولكنني علمت من مصدر موثوق أن 60% من المقاتلين الفلسطينيين الحاليين في غزة هم أيتام من صراع عام 2014، وسواء كانت النسبة المئوية المذكورة صحيحة أم خاطئة، فأعتقد أنه من المعقول أن نفترض أن العديد من الأيتام من جولات الصراع السابقة منخرطون في القتال الحالي، إنها حلقة مفرغة من العنف تحتاج إلى كسر، إذا كان للفلسطينيين والإسرائيليين أن يختبروا يومًا ما شعورًا بالسلام والأمن في حياتهم.
لا شك أن الدمار وحجم الوفيات والإصابات التي شهدناها في غزة على مدى الأشهر الأربعة عشر الماضية سوف يكون لها تأثير على العلاقات في المنطقة الأوسع لعقود قادمة. وسوف تظل الصور المروعة للأطفال القتلى والجرحى تطارد المنطقة وتشكل خطراً حقيقياً على الاستقرار والتعاون الإقليميين في المستقبل القريب والبعيد، وهذا واقع إنساني لابد وأن يؤخذ في الحسبان في سيناريو ما بعد الحرب. وفي اعتقادي أن التحرك الفوري والحاسم من جانب المجتمع الدولي هو السبيل الوحيد للمضي قدماً.
إن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مدفوع في الأساس بالظلم. والاحتلال المستمر للأراضي الفلسطينية هو السبب الجذري للمقاومة الفلسطينية، وهذا الأمر يحتاج إلى معالجة مباشرة من جانب المجتمع الدولي، إذا كنا نريد كسر حلقة العنف التي لا نهاية لها والتي شهدناها لأكثر من سبعين عامًا. لقد مضى منذ فترة طويلة عصر المفاوضات المطولة أو ترتيبات أوسلو، ومن مصلحة الجميع، بما في ذلك إسرائيل والولايات المتحدة، أن نرى نهاية فورية للاحتلال وإعلان دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، هذه هي نقطة البداية الواقعية الوحيدة لأي عملية تطبيع في المنطقة، إنها الضمانة الوحيدة للاستقرار والأمن المستدامين، وهو ما يصب في مصلحة كل دولة في المنطقة.
وفي الوقت نفسه، دارت مناقشات وتكهنات كثيرة في وسائل الإعلام منذ بداية هذه الحرب حول ما ينبغي أن يحدث في غزة في اليوم التالي لوقف إطلاق النار. والواقع أن حجم الدمار هائل إلى الحد الذي قد يتطلب سنوات عديدة، فضلاً عن مليارات الدولارات، لاستعادة البنية الأساسية المادية للمنازل والمدارس والمستشفيات والمباني التجارية والمتاجر والطرق والمباني البلدية والجامعات والمكتبات والمحاكم ومراكز الشرطة، وهي كلها أمور أساسية إذا كان لسكان غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة أن يستأنفوا حياتهم الطبيعية.
وهناك أيضاً قضية الحكم الفوري والطويل الأجل لقطاع غزة، الذي يعترف به المجتمع الدولي كجزء لا يتجزأ من الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهذه قضية رئيسية لا ينبغي تأجيلها، بل ينبغي للمجتمع الدولي أن يعالجها، وأن يتفق على الأقل على حل مؤقت دون مزيد من التأخير. ولكن عملية صنع القرار لابد أن تكون شاملة، ولابد من إشراك الفلسطينيين، وخاصة سكان غزة، في المناقشات، ومن الضروري أن يكون لشعب غزة رأي حقيقي في تشكيل مستقبله، والعبارة القديمة “من الرماد ينهض طائر الفنيق” مناسبة حقاً في سياق غزة، لأنها ترمز إلى المرونة والمثابرة والقدرة التي يتمتع بها الناس على التعافي وإعادة البناء على الرغم من خسائرهم المدمرة، وهذا ما فعلوه طوال تاريخهم الطويل.
إن هناك أحياء بأكملها في غزة أصبحت غير صالحة للسكن تماماً، وفي غياب أي شكل من أشكال الحكم المحلي بمجرد إعلان وقف إطلاق النار، فإن هناك خطراً حقيقياً يتمثل في الانزلاق السريع إلى الفوضى، وتحول مناطق بأكملها إلى مناطق غير قابلة للحكم، وفي ظل مثل هذه الظروف فإن العديد من الناس سوف يرون في الهجرة غير الطوعية الخيار الوحيد للبقاء على قيد الحياة، وسوف يؤدي التحرك الجماعي لأشخاص جائعين ونازحين إلى زعزعة الاستقرار الإقليمي على نطاق أوسع، والفشل في إدراك إمكانية حدوث مثل هذا السيناريو بعد الحرب من شأنه أن يخلف عواقب وخيمة، لذا فإن الخطط لابد وأن توضع قبل وضع أي حجر الأساس لإعادة بناء النسيج الاجتماعي للحياة في غزة على الفور، وبالإضافة إلى توفير المأوى، يحتاج الناس، من أجل الشعور ببعض الشعور بالأمن، إلى أن يتمكنوا من توفير الطعام على المائدة، والحصول على الرعاية الصحية، والتعليم لأطفالهم، والشعور بالحماية التي يوفرها حكم القانون. والآن يتعين على المجتمع الدولي أن يعمل جنباً إلى جنب مع المهنيين الذين ما زالوا داخل غزة والحكومة التكنوقراطية في رام الله لتطوير قدراتهم من أجل معالجة التحديات الصحية والتعليمية والقانونية والاقتصادية المباشرة التي يواجهها 2.2 مليون شخص في أحيائهم التي مزقتها الحرب.
إن الدروس العديدة المستفادة من فشل التدخلات الأخرى في مرحلة ما بعد الصراع، مثل تلك التي حدثت في أفغانستان والعراق والبوسنة، لا ينبغي لنا أن ننساها في غزة، ولعل أهم هذه الدروس هو الاعتراف بالحاجة إلى ضمان إشراك صوت المجتمع المدني المحلي في عملية صنع القرار، ومن الأهمية بمكان أيضاً ضرورة دعم تطوير استجابات جيدة التخطيط من القاعدة إلى القمة لمواجهة التحديات المحلية المعقدة، ذلك أن الحلول التي تفرض من الخارج قد تخدم مصالح أخرى غير مصالح أهل غزة، والسماح بحدوث هذا من شأنه أن يخاطر بإخفاء الشقوق التي قد تظهر مرة أخرى في وقت لاحق، والآن هو الوقت المناسب لضمان إرساء أسس السلام الدائم من خلال عملية شاملة، وفي رأيي أن هذه هي الطريقة الوحيدة لضمان أمن إسرائيل الفوري والبعيد الأمد في المنطقة.
في أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد عشرة أيام من بدء الحرب، تلقينا نبأ حزينا بمقتل محمد أبو عاصي، المسؤول الإداري في بيت الحكمة، مركز حل النزاعات الذي ساعدنا في إنشائه في غزة، وقد توفي هو وابنه يمان البالغ من العمر 5 سنوات وابنته جوليا البالغة من العمر عامين، عندما قُصف منزلهم، كان شابا مليئا بالطموحات لنفسه ولأسرته، ونحن نعرب عن تعازينا لزوجته وابنه الأصغر اللذين نجوا.