لقد كانت تجربة جنوب أفريقيا في مواجهة نظام الفصل العنصري واحدة من أهم النماذج التي استوقفت الباحثين والمناضلين في كل مكان، لما حفلت به من دروس في الصمود والإصرار والعمل السياسي الواعي. فالنضال الذي قاده نيلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي (ANC) لم يكن مجرد مواجهة داخلية مع سلطة ظالمة، بل كان معركة وعي عالمية، استطاعت عبرها الحركة التحررية أن تكسب تعاطفًا دوليًا واسعًا وتحوّل قضيتها إلى قضية إنسانية بامتياز.

كان مانديلا يدرك أن كسب المعركة لا يكون فقط في ميادين المواجهة، بل في ساحة الرأي العام العالمي، وفي كسب الضمائر الحيّة حول العالم. ومن هنا، عملت قيادة المؤتمر الوطني الإفريقي على بناء شبكة علاقات ممتدة مع حركات التحرر، والمنظمات الحقوقية، ومؤسسات المجتمع المدني في الغرب، بل وحتى مع شخصيات فكرية وسياسية أمريكية وأوروبية. لقد أدرك مانديلا أن طريق الحرية لا يمر فقط عبر التضحية في الداخل، وإنما أيضًا عبر كسب العقول والقلوب في الخارج. وهكذا نجح في تحويل النضال ضد نظام الأبارتهايد إلى قضية أخلاقية وإنسانية تشغل الضمير العالمي، وتدفع الحكومات الغربية إلى مراجعة مواقفها، وفرض العقوبات والمقاطعة على النظام العنصري حتى سقط في النهاية تحت وطأة العزلة الدولية.

وفي المشهد الفلسطيني الراهن، نلمس اليوم إرهاصات مشابهة لما جرى في جنوب أفريقيا، فقد أسهمت حرب الإبادة على غزة في إحداث تحوّل عميق في وعي الشعوب الغربية تجاه حقيقة الصراع، وكشفت زيف الرواية الإسرائيلية التي روّجت لنفسها لعقود بوصفها “الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط”. لقد انطلقت موجات تضامن شعبي غير مسبوقة في عواصم أوروبا وأمريكا الشمالية، وخرجت الملايين ترفع علم فلسطين وتندّد بالجرائم المرتكبة ضد المدنيين، فيما بادرت الجامعات والنقابات والجمعيات الأكاديمية إلى اتخاذ مواقف شجاعة بمقاطعة إسرائيل ومؤسساتها.

ولعلّ الموجة الجديدة من الاعترافات الرسمية بدولة فلسطين – من دول مثل بريطانيا وفرنسا وإيرلندا وإسبانيا واستراليا والنرويج وسلوفينيا وغيرها – تعبّر عن هذا التحوّل الجوهري في الاتجاه الدولي، وعن بداية تصدّع في الجدار السياسي والأخلاقي الذي كان يحمي إسرائيل من المساءلة. كما أن التحولات في الرأي العام الغربي تُنذر بولادة ضمير إنساني جديد، بدأ يراجع ثوابته الأخلاقية بعد أن شاهد بأمّ عينه مأساة غزة ومعاناة الفلسطينيين. وهذا التحوّل – إن أُحسن استثماره – يمكن أن يشكّل رافعة سياسية وأخلاقية جديدة تدفع باتجاه إنهاء الاحتلال، تمامًا كما فعلت الضغوط العالمية التي أسقطت نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا.

إن من أهم دروس التجربة الجنوب أفريقية أن التحرر لا يتحقق فقط عبر المقاومة المسلحة، بل عبر بناء خطاب سياسي وأخلاقي يُقنع العالم بعدالة القضية، ويحوّلها إلى شأن إنساني كوني. وعليه، فإن النضال الفلسطيني بحاجة اليوم إلى تطوير أدواته السياسية والإعلامية والقانونية، وبناء جبهة عالمية مناصرة تستند إلى قيم العدالة والحرية وحقوق الإنسان. فالعالم تغيّر، والوعي الإنساني بات أكثر حساسية تجاه المظالم الجماعية، ولا سيما تلك التي ترتكب تحت ذرائع دينية أو قومية زائفة.

من هنا، تبدو تجربة مانديلا وحركته نموذجًا يمكن للفلسطينيين أن يستلهموه في إدارة صراعهم الطويل مع الاحتلال، من خلال الجمع بين الثبات على الأرض والعمل الدبلوماسي الذكي، واستثمار التحوّل الجاري في الرأي العام العالمي لبلورة استراتيجية جديدة تستنهض الضمير الإنساني، وتعيد الاعتبار للحق الفلسطيني في الحرية والاستقلال.

شاركها.