أخيراً، وبعد انتظار كان يُحسب بالدقائق وبعدد الشهداء من قِبل الغزيين، قدمت حركة حماس ردّها على مبادرة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
قام البعض بوصف هذا البيان/ الرد بالذكي، خصوصاً بعد تعليق ترامب عليه بما يشبه الموافقة المبدئية على محتواه، وقام البعض الآخر بالتعليق أن هذا الرد هو ما تبقى في جعبة حماس، خصوصاً بعد التهديدات الجدية للحركة من قبل ترامب، وأنه لم يكن أمامها إلا القبول بالخطة، مع بعض المحاولات اليائسة للبقاء في المشهد.
من ناحيتي أعتقد أن كلا الوصفين فيه جانب من الصحة، لكنني أرى أن أصابع تركية موجودة داخل هذا الرد، وليس بمعنى الذكاء ولا بمعنى انسداد الخيارات، بل بمعنى أن الرد أهمل التعديلات التي قام بها ترامب إكراماً لنتنياهو، ووافق على الصيغة الأولى التي تمت بحضور الوفد العربي الإسلامي في البيت الأبيض، وعلى رأس هذا الوفد كان أردوغان.
وبالتأكيد هذا ليس انتقاصاً من أي دولة ممن حضر ممثلوها ذلك الاجتماع، بقدر ما هو تأكيد على العلاقة المميزة بين ترامب وتركيا، والمصالح المتبادلة التي تتفوق على أي مصالح مع أي دولة أخرى من الوفد المشارك.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار دخول تركيا المتأخر جداً على خط الوساطة القطرية المصرية، ثم تزعمها للوفد الذي اجتمع مع ترامب للتفاوض على حل، مباشرة بعد موجة الاعترافات بدولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وجلوس أردوغان على رأس الطاولة إلى جانب ترامب، في حركة مخالفة أو على الأقل غريبة عن البروتوكول الدبلوماسي المعتاد، وبعد ذلك تصريحات وزير خارجيته الرافضة للتعديلات التي أجريت، بضغط من نتنياهو، على الإطار المتفق عليه مع الوفد المذكور، فإننا نخلص إلى دور محوري لتركيا في كل ما جرى.
ولأن هذا الدور المحوري الذي كان بإمكان دولة مثل تركيا، وبمكانتها وثقلها، أن تقوم به منذ بداية الحرب، لكنها لم تفعل لأسباب لا نعرفها، فإن المُرجح هو أن هذا الدور تم بطلب خارجي، وغالباً أميركي، وليس بمبادرة ذاتية من تركيا نفسها.
وكما هو معروف فإن أي استدعاء لا يكون عادة إلا لهدف معين، وهذا الهدف لم يكن إلا دور وساطة بين حماس وأميركا، وليس بين حماس وإسرائيل كما يفعل الوسيطان مصر وقطر.
لكن لماذا تركيا؟ الجواب ببساطة هو أنها الممثل الحقيقي للإخوان المسلمين، وهي تمظهرهم شبه الوحيد في دولة ناجحة في المنطقة، وهي من تستطيع، لهذه الأسباب، وغيرها من قبيل استثمارات حماس وأموالها في هذا البلد، أن تفرض شروطاً حقيقية على الحركة. ولأن مصالحها مع أميركا (ومع إسرائيل بشكل أقل)، ووجودها كقوة إقليمية قد تلعب دوراً مستقبلياً في كبح إيران، وكمستفيد محتمل من خطوط الطاقة وممرات التجارة القادمة في المنطقة، فإن كل هذا يؤهلها لأن تكون كلمتها مسموعة لدى ترامب (ونتنياهو أيضاً) وأن تكون كلمتهما مسموعة لديها بشكل ما.
قد يسأل سائل عن قطر ورعايتها لحماس، وعن الدور القطري في الوساطة، وقدرة هذا الوسيط في الضغط على الحركة، والواقع أن الدور القطري مرسوم أميركياً كما تعترف الدوحة نفسها، وهو يتعلق باستضافة حماس تحديداً من أجل إمكانية الضغط عليها حين يلزم الأمر.
هذا هو الاستنتاج المنطقي من هذا الدور، لكن علينا ألا نبالغ في تصديقه خصوصاً بعد عامين من الجولات غير المثمرة، والتي تخللتها فترات من الحرد تارة، ومن التهديد بالانسحاب من وفد الوساطة تارة أخرى، ومن تسريبات تتعلق بطرد قيادة حماس وإغلاق مكتبها، ثم النفي والتراجع، إضافة إلى الفضائح المالية مع مكتب نتنياهو، والدفع لتخريب الدور المصري، ما ساهم بشكل أو بآخر في إطالة مدة هذه الحرب. ما يقودنا إلى استنتاج قد نورده على شكل تساؤل: ألا يمكن أن يكون هذا هو المطلوب أميركياً؟ أما الإجابة فنتركها لحنكة القارئ.
لكل الاعتبارات السابقة فإنني أجزم أن من صاغ رد حماس هم الأتراك، وبثمن يتعلق برعاية قادمة لحماس، وإجبارها على التحول من حركة مقاتلة إلى حزب سياسي. أما الدلائل على هذا التقدير فنجدها في الرد نفسه، وهي اختصاراً كالآتي:
لا تلتزم حماس في ردّها إلا بمطلب واحد مما يخصّها وتستطيع فعله ميدانياً بمفردها، وهو تسليم الأسرى، أما المطلب المتعلق بتسليم السلاح فقد تجاهلته عن قصد لاعتبارات حفظ ماء الوجه، لكنها حين تتحدث عن اليوم التالي تترك الشأن كاملاً للأطراف الفلسطينية والعربية الأخرى. ولأن اليوم التالي سيحدد، فيما يحدد، وجود سلاح حماس من عدمه، فليس من المنطق أن تتركه للآخرين دون ضمانات جدية تجاه وجودها دون هذا السلاح، خصوصاً أن لا ترامب ولا نتنياهو ولا الوسطاء سيقبلون بوجوده. وحماس دون سلاح ليست أكثر من حزب سياسي.
يعزز هذا التقدير التصريحات اللاحقة للرد، وتحديداً من عضو مكتبها السياسي موسى أبو مرزوق، باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية هي المخولة بكل شيء كممثل وحيد للشعب الفلسطيني.
هذه التصريحات التي نتمنى أن تكون صادقة وليست من باب نصب فخ للمنظمة، كما هي العادة، وتصديرها في قادم الأيام كشريك للضغط الدولي على «المقاومة».
إذاً من كتب رد حماس هم الأتراك، لكن من كتب قبول ترامب لهذا الرد، واعتباره إيجابياً وسيتم التعاطي معه على هذا الأساس؟ إنها مصالح الولايات المتحدة التي لم تعد تحتمل التأخير.
صحيح أن ترامب يعاني من جنون العظمة، ومن رغبة جامحة بسماع وتقبل المديح، ومن أمنيات (سوف تتحقق لا شك) بالحصول على جائزة نوبل، لكن هذا وحده لا يكفي ليكون سبباً في الضغط على نتنياهو واليمين الأيديولوجي الإسرائيلي، ووضع مكابح في عجلات خططهم تجاه الفلسطينيين وأرضهم.
هناك مصلحة أميركية، بل وعالمية، في تغيير وجه غزة كنقطة مرور للكوريدور الهندي الأوروبي، وهذه المصلحة كانت خلف اشتعال الحرب التي استنفدت مهمتها أميركياً، وإن لم تستنفدها إسرائيلياً، وقد آن أوان قطف الثمار.