مها الحاج سعت لتقديم سينما فنية فكان فيلم “ما بعد”!
يمكن اعتبار فيلم “ما بعد” للمخرجة الفلسطينية مها الحاج، وعرض، مؤخراً، في المسرح البلدي بمدينة رام الله، صرخة إنسانية دون ضجيج، ومحاكاة رمزية لما يحدث من إبادة تتواصل في غزة، وتستنسخ نفسها في الضفة الغربية، مشكلاً قصيدة بصرية ما، صيغت بعبقرية فذّة، تمزج ما بين الرثاء والهجاء في آن.. قصيدة سينمائية حول الخسارات في العالم الموازي الأكثر هشاشة، وربّما الأكثر تماسكاً أيضاً، ليس فقط في فلسطين الآن، بل في “المستقبل”، و”في مكان ما”.
تدور أحداث فيلم “ما بعد” حول زوجين، سليمان ولبنى (محمد بكري وعرين العمري)، يعيشان في مزرعة منعزلة، يهتمان بالأشجار، ويجريان مناقشات ساخنة ومستمرة حول خيارات حياة أطفالهما الخمسة حيث يتعرض خيالهما المصون بعناية للتهديد بعد وصول شخص غريب، يعرف لاحقاً أنه صحافي (عامر حليحل)، يكشف لهما، ولنا حقيقة مروعة.
قبل حضوره، كان يعيش الزوجان في حالة من الإنكار للكارثة التي أودت بحياة أطفالهما الخمسة خلال غارة إسرائيلية قبل عشرين عاماً، بحيث يصوّر الفيلم كيف يحاول الزوجان التعايش مع هذه الفاجعة من خلال استحضار خيالي لأطفالهما الذين لم يعد لهم وجود فيزيائي.
يعالج الفيلم تأثير الإبادة والحرب على النفس البشرية، ويتناول موضوع التروما التي تصيب الأشخاص بعد فقدانهم لكل شيء، بطريقة شاعرية وقاسية في آن، وبعيداً عن الشعاراتية، مُبرزاً جماليات الصورة السينمائية ما يجعل منه عملاً سينمائياً مغايراً سيحفر نفسه ولنفسه عميقاً في دواخل المشاهدين حول العالم.
وأشارت المخرجة مها الحاج، في حوارية معها، أعقبت العرض، إلى أن الفيلم يتمحور حول “الصمود” بالأساس، وإلى أنها حين بدأت في كتابة السيناريو له كان واضحاً أنه سيتشكل في فيلم روائي قصير، ولكون هذا النوع من الأفلام يعتمد عنصر المفاجأة فهو لا يحتمل تحويله إلى فيلم روائي طويل، و”لم أفكر في ذلك أصلاً”.
ولفتت في رد على محاورها الشاعر والأكاديمي إيهاب بسيسو، وزير الثقافة الأسبق، إلى أن الفيلم لو تحول إلى “روائي طويل، سيفقد الكثير من عناصره المحورية، التي وجد فيها الجمهور حول العالم، والنقاد ولجان التحكيم، مصادرَ لقوته”، مستهجنة اعتبار الفيلم القصير عند كثيرين محطة انطلاق وتعريف فحسب، ومعبرة عن أهمية هذا النوع من الأفلام، هي التي سبق أن اشتهرت بفيلمين روائيين طويلين، كان آخرهما “حمى البحر المتوسط”.
وبعد إشادتها بإبداع الفنانين “الكبار” محمد بكري وعرين العمري وعامر حليحل، شددت الحاج على أنه لا يعنيها كيف يستقبل المتلقي الغربي، وكيف يفكر بأفلامها، فليس في ذهنها، عند صناعة فيلم “ما بعد”، وفيلميها السابقين، الجمهور الغربي، وتقديم أفلام لإمتاعهم أو تسليتهم أو حتى توعيتهم أو استدرار عواطفهم.. “أصنع سينما أراها ملائمة لي كفلسطينية وكفنانة.. إن أحبوه فهذا رائع، وإن لم يحبوه فليس أمراً كارثياً”.
ولفتت الحاج إلى أن الكثيرين حول العالم عبروا عن دهشتهم بأن هذا ما يحدث في فلسطين، وتذرعوا بأنهم لا يعرفون، في حين عبرت هي عن دهشتها من عدم معرفتهم، وانتظارهم لفيلم سينمائي لينير لهم عتمتهم أو يحرك مشاعرهم.. “ثمة حالة من اللامبالاة لدى الجمهور الغربي تجاهنا، فهم يلاحقون يوميّاتهم، وكيف يواصلون معيشتهم المريحة ورفاهيتهم، ويأتي فيلم فلسطيني فيحرك شيئاً دواخلهم، لا أدري كم سيتواصل تأثيره”، مشددة إلى أن البعض “يسقط فنياً” بدافع السعي إلى تغيير الفكر العالمي عبر السينما.. “ما يهمني تقديم سينما جيّدة، بصرف النظر عن موضوعها، فتقديم فن جيّد هو فعل مقاومة أصيل”.
وشددت الحاج على ضرورة عدم استغلال أو “استخدام القضية الفلسطينية”، فـ”فلسطينيّتنا أمر نعيشه، وهو داخلنا، وجزء من تكويننا، فصانع الأفلام كأي مبدع سيكون محتوى ما يقدمه فلسطينياً إذا ما كان صادقاً”، مؤكدة أنها ليست محللة نفسية، ولا تعرف إن كان هناك من عاش حكايات مشابهة لما اختارت أن يكون عليه الزوجان في فيلمها، أو إذا ما كان ثمة من يتكيف مع الفاجعة بهذه الطريقة من عدمها على أرض الواقع.
والفيلم الذي تم تصويره في قرية “سواعد” البلدية بين حيفا والناصرة، حصل قبل أيام على جائزة الجمهور في مهرجان كليرمون فيران الدولي للأفلام القصيرة في فرنسا، وهو من أبرز المهرجانات المتخصصة في هذا المجال عالمياً، وكان فاز بجائزة “باردينو دي أورو” من مهرجان لوكارنو السويسري، وهما جائزة لجنة التحكيم لأفضل فيلم قصير وجائزة لجنة التحكيم الشباب المستقلة، العام الماضي، كما فاز بجائزة نجمة الجونة الذهبية لأفضل فيلم قصير، في مهرجان الجونة السينما، وأفضل فيلم روائي قصير في منصة “الشارقة” للأفلام، وغيرها.