بعد أن أحرق بنيامين نتنياهو المطلوب لـ»الجنائية الدولية» سفنه، لم يعد يتوخّى الحذر إزاء تصرّفاته وردود أفعاله، ومواقفه وقراراته. كان عليه أن ينتظر قليلاً التحقيقات التي أجرتها السلطات الأسترالية على الفور، قبل أن يقع في المحظور.
ليس هو وحده من وقع في خطيئة تسرُّعه، بل ان وسائل الإعلام الإسرائيلية، وكثيراً من المسؤولين والوزراء، سارعوا إلى إطلاق التهم، والتهديدات وتوزيع المسؤوليات عشوائياً بمجرّد أن سمعوا الأنباء الأولى عن الهجوم المُدان بكلّ اللغات الذي وقع يوم الأحد المنصرم على شاطئ بوندي الأسترالية.
الحدث الذي استهدف ثلّة من يهود أستراليا واليهود الإسرائيليين إبّان الاحتفال بـ»عيد الحانوكا» كان مروّعاً وإجرامياً بحق اليهود وبحق أستراليا شعباً وحكومة، وهو، أيضاً، مروّع إلى حدود لا توصف، بالنسبة لكل إنسان لا يزال يحتفظ ببعض إنسانيته بغضّ النظر عن جنسيّته أو دينه أو عرقه أو قوميّته.
لم أسمع أو أقرأ، أيّ تعليق أو موقف، أو تغريدة لأيّ إنسان استقبل الحدث، بالتعبير عن الفرح، أو التأييد، فلقد جاءت الإدانات والتنصّل من المسؤولية، من كلّ أطراف الدنيا.
المجتمع الأسترالي، على قدر واسع من التنوّع، لكنه يعيش حالة من الاستقرار والتسامح، والاندماج، قد لا يشبهه في ذلك مجتمع آخر. في هذا العالم الواسع قلّ أن تجد مجتمعاً خالياً من العنف، وإن بدرجات متفاوتة، ولكن ثمّة من أراد الاصطياد في المياه العكرة دائماً، فيختار من الأحداث، ما يستدعي التسييس والتوظيف كما في حالة الواقعة التي وقعت في بوندي.
في دولة الاحتلال الاتهامات جاهزة على الطاولة وليس في الأدراج المغلقة، فمن ينتقدها، إما كاره لليهود وإما لاسامي وإما إرهابي، أما حين يتعلّق الأمر بالحكومات والقادة فهم ضعفاء أو أعداء، أو داعمون للإرهاب.
يستوي الأمر بالنسبة للمسؤولين الإسرائيليين، إن كان هؤلاء من الحلفاء القدامى، أو الجدد مع الأعداء، فوراً أطلق نتنياهو ووزراء وكتّاب وصحافيّون الاتهامات لإيران و»حزب الله» اللبناني، قبل أن يعودوا بعد بضع ساعات للإشادة بالبطل المسلم أحمد الأحمد، الذي جازف بحياته، وتعرّض للإصابة والذي هبّ من دون تردّد إلى ملاحقة مطلق النار، والاستيلاء على سلاحه، وإلّا لكانت الحصيلة أكثر بكثير من 15 قتيلاً ونحو 40 مصاباً.
ما يحدث هو نتيجة للسياسة الموالية للفلسطينيين، والمقصود حسب نتنياهو اعتراف أستراليا بدولة فلسطين، والسماح للتظاهرات الرافضة للإبادة الجماعية والتجويعية التي رافقت الحرب العدوانية على غزة والتي على حد قوله أعطت الشرعية للإرهاب.
لم يتأخّر ردّ رئيس الوزراء الأسترالي العمّالي أنتوني ألبانيزي الذي أعلن «عدم قبوله الربط بين الاعتراف بدولة فلسطين والهجوم». وأضاف، أنه «عمل إرهابي معاد للسامية يستهدف بلده وليس كمبرّر لتسييس القرارات الدبلوماسية الدولية».
قبل الهجوم المُدان، كان نتنياهو قد كتب لألبانيزي أنه يكافئ الإرهاب، ويغذّي اللاسامية بسبب سياسته، وأن أستراليا استبدلت الضعف بالضعف على حدّ تعبير نتنياهو، وادّعى كالعادة أن كيانه يدافع عن الحضارة والثقافة «الغربية».
وفي محاولة مكشوفة لإظهار تكامل سياسته مع سياسة الولايات المتحدة الأميركية، ربط نتنياهو بين هجوم بوندي، ومقتل جنديين أميركيين ومترجم في سورية، لكي يكرّر ويتبنّى ذات التهديد الذي أطلقه وزير الحرب الأميركي، الذي قال إنهم سيلاحقون كلّ من يستهدف جنودهم، وإن الدولة العبرية تفعل الشيء ذاته في غزّة ولبنان وفي أيّ مكان.
الخطاب الإسرائيلي الرسمي وغير الرسمي، يدّعي أن اليهود في كلّ مكان يتعرّضون للاستهداف، وأنهم ليسوا في مأمن من الهجمات الإرهابية واللاسامية، ولذلك فإن كيانه سيحثّ الدول على تشديد الأمن لحماية اليهود، ولكنه، أيضاً، سيقوم بنفسه باتخاذ الإجراءات اللازمة لحمايتهم.
هذا يعني أن دولة الاحتلال بصدد تصعيد تدخّلاتها المباشرة في أمن وشؤون الدول التي تتواجد فيها جاليات يهودية حتى لو كانت دولاً صديقة.
في الواقع فإن دولة الاحتلال كانت ستستغل هجوم بوندي لتصعيد حملتها التي بدأتها بكثافة في الأسابيع الأخيرة للتحريض على المسلمين والمهاجرين في الدول الغربية، من أجل إعادة صياغة وعي المجتمع الدولي، الذي تخلى عن سرديّتها بعد الجرائم التي ارتكبها جيش الاحتلال في قطاع غزّة.
شخص واحد مسلم، سوري، بطل واحد، أسقط هذه السرديّة مرّة أخرى، وفضح المزاعم والنوايا الإسرائيلية الخبيثة، ولم يكن الأوّل أو الوحيد المسلم الذي فعل الشيء ذاته في عواصم أوروبية.
عبثاً تحاول دولة الاحتلال أن تنجح في مسح ذاكرة الناس والمجتمعات، خصوصاً الأوروبية، وبما في ذلك الأميركية، التي عاشت بالصوت والصورة، وقائع الجرائم الإسرائيلية بحق الإنسان الفلسطيني، وحتى لو تمّ استنزاف كلّ أموال حكومة نتنياهو من أجل تحقيق هذا الهدف.
تتجاهل دولة الاحتلال الرسمية، أنها ليست ولم تعد قادرة على تسويق فكرة أنها هي دولة اليهود في العالم.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن اليهود في دول أخرى هم مواطنون بكل المعايير في دولهم، وهي المسؤولة عن حياتهم وأمنهم كما سائر مواطني الدول التي يعيشون فيها، وليست الدولة العبرية التي أساءت للشعب اليهودي في كلّ مكان، حتى أن أعداداً كبيرة منهم تحوّلوا عن تأييدها ودعمها، وأعداداً أخرى كبيرة تشكوها بأنهم غادروها أو يرغبون في مغادرتها.
وإذا كانت دولة الاحتلال لم تحقّق الأمن والاستقرار لأبنائها ورعاياها من اليهود ومن المواطنين العرب، بسبب سياستها الاحتلالية والعدوانية والتوسّعية، فهل يحقّ لها أن تقدّم نفسها كحامية لليهود في دول أخرى؟
في الواقع ينبغي الحذر الشديد من أن فشل دولة الاحتلال في استغلال وتوظيف هجوم بوندي، لتعزيز حملتها وتصعيد هجومها وتحريضها على المسلمين والمهاجرين، فإنها لن تكفّ عن خلق الذرائع والمبرّرات باستخدام جماعات أخرى متطرّفة للقيام بأعمال مشابهة للمضيّ قدماً في أهدافها.
«داعش» وأخواتها المعروفة بصانعها ومن يقف خلفها، ومن يشغّلها تظلّ رصيداً جاهزاً للتوظيف، وهي التي لم تطلق رصاصة واحدة ضدّ دولة الاحتلال منذ أن ظهرت في ميدان النشاط والفعل.

شاركها.