في مشهد سياسي أمريكي متوتر ومفتوح على إحتمالات متصاعده مع تلقي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هزيمة غير مباشرة بعد أن فشل مرشحه الجمهوري في سباق حاكم ولاية نيويورك، حيث تحولت تلك المعركة إلى إستفتاء حقيقي على زعامة ترامب للحزب الجمهوري وإلى مؤشر بالغ الدلالة على تآكل نفوذه داخل المدن الكبرى.
فرغم أن ترامب لم يكن مرشحا رسميا في هذا السباق، إلا أنه إختار أن يخوضه من وراء الستار متحديا المرشح الديمقراطي زهران ممداني أمام عدسات الكاميرات، ومتوعدا بقطع التمويل الفيدرالي عن نيويورك، إذا ما فاز الأخير، في خطوة إستعراضية  أرادها ترامب لعرض قوة جديدة، ولكنها تحولت في واقعها إلى نقطة ضعف محرجة لترامب، بعد أن فاز ممداني بفارق مريح أعاد الديمقراطيين إلى الواجهة بثقة متجددة.
فقد سعى ترامب من خلال هذا التحدي إلى إعادة إنتاج صورته كـرجل قوي لا يهزم، وإلى تقديم نفسه كقائد فعلي للحزب الجمهوري قبل الإنتخابات الرئاسية المقبلة، لكن نتائج نيويورك كشفت أن الخطاب الشعبوي الذي نجح في الريف الأمريكي لا يجد صدى في المدن الكبرى، التي تميل إلى الإعتدال والعقلانية أكثر من الإنفعال والمواجهة.

ويمكن القول سياسيا إن هذه الهزيمة شكلت تحولا في المزاج الإنتخابي الأمريكي ، وأعادت تسليط الضوء على إنقسامات الحزب الجمهوري ، حيث بدأ بعض قادته يتحدثون علنا عن ضرورة تجديد الدماء ، وإعادة التوازن في قيادة الحزب، خشية أن تتحول زعامة ترامب إلى عبء إنتخابي، أما الديمقراطيون فقد قرأوا المشهد كإنتصار رمزي يعزز فرصهم في الإنتخابات الرئاسية القادمة، لا سيما بعد أن إستطاعوا قلب المعادلة في واحدة من أهم الولايات ذات الثقل الإقتصادي والسياسي الكبير.
أما على الصعيد الدولي فالمشهد لم يمر دون إهتمام، إذ إن تراجع نفوذ ترامب يعني إحتمال تغير في توجهات الحزب الجمهوري فيما لو وصل إلى الحكم، خاصة في ملفات السياسة الخارجية تجاه الشرق الأوسط، وأوكرانيا، والصين، وبالتالي فإن هذه الخسارة لا يمكن فصلها عن حسابات القوى الكبرى التي تراقب بدقة مسار الإنتخابات الأمريكية، لأنها تدرك أن من يدخل البيت الأبيض سيحدد شكل النظام الدولي لعقد قادم على الأقل.
فقد تكون نيويورك بعيدة جغرافيا عن واشنطن ، لكنها اليوم أصبحت الأقرب إلى مراكز القرار في تأثيرها السياسي ، فالخسارة هناك لم تكن هزيمة حزب بقدر ما كانت إنذارا مبكرا لزعيم راهن على لغة التحدي بدل لغة العقل.

وإذا إستمر ترامب في نهجه الصدامي القائم على الإستعراض والمناورة، فربما يجد نفسه معزولا حتى داخل الحزب الجمهوري الذي كان يوما يتغنى بإسمه.
فالزمن السياسي لا يرحم المترددين ، والشارع الأمريكي بدأ يمل من الشعارات النارية والوعود الكبيرة التي لم تجد طريقها إلى التنفيذ.
وما جرى في نيويورك ليس مجرد محطة إنتخابية بل علامة فارقة في مسيرة ترامب السياسية ، قد تحدد إن كان سيعود إلى البيت الأبيض ظافرا أم سيغادر المسرح الأمريكي مثقلا بخيبات صنعها بيديه ، نتيجته لموقفه الداعم لنتنياهو وحرب الإبادة في غزه.
عميد اردني متقاعد

شاركها.