لقد تفتحت ذهنيتي وأنا شابٌ في العشرينيات من عمري على أصوات التكبير، كمؤشرٍ على إطلالة الجيل الفتي لأبناء “الصحوة الإسلامية”، وما كان يحمله لنا من بشريات لأمة الخيرية من الناس.
اليومَ، تلك الأصوات الهادرة، خفتت وتيرتها وتراجعت نبرتها، ولم تعد تمتلك الزلزلةَ التي تُخيف معسكر الأعداء، مُؤذنةً بمرحلة جديدة، هي في طور التشكل، وإن كانت ملامحها لا تُبشر بخيرٍ، بعد حالة العجز والخذلان التي ظهرت عليها الأمة العربية والإسلامية، وتقاعسها عن نُصرة الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض لإبادة جماعية منذ أكثر من ١٨ شهراً!!
فهل مشهدية القتل والتجويع والحصار التي عليها النازحون في قطاع غزة، مع حالة الصمت الرهيب الذي عليه أمتنا، هي مؤشر للقول: إنَّ الإسلاميين كذراعٍ للقوة والهيبة قد تودِّعَ منهم، أم هي بداية التغيير في العقلية نحو التفكير بمنطلقات جديدة، لإعادة ترميم همم ومخترعي مشروع “الإسلام السياسي”
لإطلالة بعثٍ تُحيي ما نحن عليه من تردٍّ ورميم؟!
سؤال قد تجيب عليه هذه القراءة لظاهرة “الإسلام السياسي” في مئويتها الأولى، أو نطوي الذكر عليها صفحاً، ونحن نستشرف ما قد يقود لمئوية ثانية تتأرجح حظوظها بين الشطب أو التمكين.
مقدمة:
قبل مئة عام، بدأت ملامح ما صار يُعرف لاحقًا بـ”الإسلام السياسي”، عندما تأسست جماعة الإخوان المسلمين في مصر عام 1928، كردّ فعل على سقوط الخلافة العثمانية وتزايد هيمنة الاستعمار الغربي.
آنذاك، حمل المشروع طموحًا أمميًا، سعى إلى استعادة الإسلام كمنهج حياة جامعٍ بين الدين والدولة.
لكن بعد قرن من النشأة، وبعد صعود وهبوط، نجاحات محدودة وانتكاسات متكررة، تبدو صورة الإسلام السياسي في لحظة مراجعة كبرى:
فهل لا يزال مشروعًا عالميًا؟ أم أنه بات مشروعًا محليًا يحاول التكيّف مع الدولة الوطنية؟
من الحلم الأممي إلى واقعية الدولة القُطرية
يرى الباحث أوليفييه روا أن حركات الإسلام السياسي “أمّمت الإسلام”، وجعلته أيديولوجيا سياسية، لكنها عجزت عن بناء نموذج عملي في الدولة الحديثة، أما المفكر الفرنسي فرانسوا بورغا، فيُرجع إخفاق الإسلاميين إلى البيئة السياسية الاستبدادية، ويعتبرهم امتدادًا للتحولات الاجتماعية الحديثة لا مجرد ارتدادٍ للماضي.
المفكر الجزائري مالك بن نبي، وضع الأسس النظرية لمشروع حضاري إسلامي، مشددًا على ضرورة الجمع بين الأصالة والمعاصرة، دون أن يندرج ضمن مسمى “الإسلام السياسي”، لكنه أسس لفكرة الفاعلية الحضارية الإسلامية.
الربيع العربي: حالة الانتشاء والصدمة
شكل الربيع العربي اختبارًا واقعيًا للحركات الإسلامية، إذ وصل بعضها إلى الحكم (في تونس، مصر، المغرب)، لكنها واجهت تحديات داخلية ومؤسسية وأمنية حالت دون ترسيخ تجربتها.
يرى المفكر راشد الغنوشي أن الإسلاميين لم يُهزموا ديمقراطيًا، بل تمَّ إقصاؤهم بالقوة، مؤكدًا أن التجربة كشفت الحاجة إلى تطوير الفقه السياسي الإسلامي.
من جانبه، يرفض الباحث جون إسبوزيتو؛ مدير مركز التفاهم الإسلامي المسيحي، التوصيفات الغربية للإسلاميين، ويرى أنهم في الغالب يسعون إلى الإصلاح السياسي لا العنف، ما يجعل استبعادهم خطرًا على الاستقرار لا عاملًا له.
بين المراجعة والاندماج: تجارب فكرية من الداخل العربي
إنَّ من أبرز من قدّموا تحليلاً معمقًا للتجربة الإسلامية المعاصرة، الباحث الأردني د. محمد أبو رمان. في كتابه “الإسلاميون والدولة”، والذي يُبرز فيه كيف انتقل الإسلاميون من الطرح الشمولي إلى مقاربات براغماتية داخل الدولة الوطنية، ويرى أن مشروعهم يمر بمرحلة إعادة تعريف مرتبطة بتغير السياقات السياسية والاجتماعية. ويشير إلى ضرورة دمج مفاهيم المواطنة والحرية في خطاب الإسلاميين إذا أرادوا البقاء ضمن المشهد السياسي.
أما المفكر الجزائري د. فاروق تايفور، فيطرح رؤية نقدية ترى أن إخفاق “الإسلام السياسي” لا يرجع إلى طبيعته، بل إلى الإقصاء الممنهج من الدولة، ويؤكد في أعماله أن الإسلاميون لا يزالون يحتفظون بشرعية مجتمعية، داعيًا إلى تطويرها نحو شرعية ديمقراطية، من خلال الانفتاح السياسي والعمل المؤسسي.
بين الدولة والدعوة: رؤية سعد الدين العثماني
من داخل تجربة “الإسلام السياسي” في الحكم، يقدّم د. العثماني تقييمًا نقديًا هادئًا، يُدافع فيه عن شرعية المشاركة السياسية للحركات الإسلامية، ويرى أنها جزء من “الاجتهاد المعاصر في تنزيل الشريعة”، لا خروجًا عن الدين ولا خيانة للمبادئ.
في كتابه “في السياسة الشرعية”، يؤكد د. العثماني أن الحركة الإسلامية اليوم أمام مرحلة جديدة، تقتضي التحرر من بعض المقولات التقليدية، خاصة تلك التي تعادي الدولة أو تحصر التغيير في طريق “التمكين الشامل”، معتبرًا أن السياسة هي فن الموازنة والمرحلية لا ساحة مثالية.
بعد تجربته في الحكومة، كتب د. العثماني أنَّ الإسلاميين لم يفشلوا لأنهم تخلوا عن مبادئهم، بل لأنهم دخلوا إلى حقل سياسي معقّد تتحكم فيه موازين قوى، واقتصاديات، ومصالح دولية، لا مجرد نوايا طيبة أو خطابات أخلاقية.
ويرى أن مستقبل “الإسلام السياسي” لن يكون في تكرار التجربة التنظيمية، بل في تطوير فكر سياسي إسلامي مرن، منفتح على الديمقراطية التعددية، وعلى مفاهيم مثل حقوق الإنسان، العدالة الاجتماعية، وتداول السلطة، دون القطيعة مع المرجعية الإسلامية.
بين الموت والتحول
تكاثرت في العقد الأخير الكتابات التي تعلن نهاية “الإسلام السياسي”. لكن الباحث د. عبد الوهاب الأفندي يرفض هذه الخلاصة، ويعتبر أن “الإسلام السياسي” لم ينتهِ، بل دخل مرحلة تحول بنيوي.
ويرى أن المراجعة الفكرية الصادقة قادرة على تجديد المشروع.
أما الباحث الأميركي غراهام فولر يدعم هذا التوجه، إذ يرى أن “الإسلام السياسي” لن يختفي طالما بقي هناك طلب شعبي عليه، وأن دمجه في السياسة أفضل من إقصائه، لتجنب توليد تيارات متطرفة جديدة.
مراد هوفمان: الإسلام كبديل حضاري
من الأصوات الغربية المسلمة المنصفة، يأتي مراد هوفمان؛ الدبلوماسي الألماني المعتنق للإسلام، والذي قدّم في كتابه “الإسلام كبديل” رؤية ترى في الإسلام نظامًا أخلاقيًا وثقافيًا قادرًا على المنافسة الحضارية. لا يتحدث هوفمان عن “الإسلام السياسي” بصيغته التنظيمية، لكنه يدافع عن حق المسلمين في التعبير عن هويتهم الدينية داخل المجال العام، ويرفض النموذج العلماني الصارم الذي يُقصي الدين من الحياة العامة.
خلاصة: مشروع في لحظة تقاطع
إنَّ “الإسلام السياسي” في مئويته ليس كما كان، ولم يعد مشروعًا أمميًا صافياً، كما لم يَطوِ صفحته بالكامل، إنه مشروع يمر بـ مرحلة انتقالية: بين الطموح العالمي والواقع الوطني، بين المقولات القديمة والضرورات الجديدة. مستقبله سيُحدد بقدرته على التكيّف، والانفتاح، والمراجعة الجادة، وليس فقط بالتمسك بالخطاب التقليدي.