الجوع والموت والدمار غير المسبوق الذي صنعته حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، والذي بلغ حداً لا يطاق وبدأ يتحول إلى كارثة إنسانية مروعة وَضْعَت  قطاع غزة ومعه القضية الفلسطينية على الأجندة الدولية.
نعم بدأت مسارات الحرب تفلت بعض الشيء من قبضة نتنياهو، لتصبح جرائم الإبادة والموت جوعاً قضية دولية.
ومن مظاهر ذلك فرض إدخال المساعدات الإنسانية عبر مؤسسات دولية، ودخول شاحنات الطحين والغذاء عبر معبر رفح، وإسقاط مساعدات أردنية وإماراتية من الجو، المترافق مع هدنة يومية من طرف واحد.
الخروج عن مألوف نتنياهو ترامب لا يعني استبدال مسارهما بمسار آخر تماماً، فالعملية لا تزال في بدايتها وتخضع للمناورة التي تستهدف احتواء الغضب الدولي، وقد يلجأ نتنياهو للتصعيد عبر خطة عسكرية جديدة لاحتلال ما تبقى من قطاع غزة وتطهيره من سكانه توطئة للتهجير وإعادة الاستيطان، وكل ذلك بإجازة من ترامب.
بيد أن التطور الأهم هو كسر احتكار نتنياهو وسيده ترامب لمسار سياسي عدمي، والسعي لفتح أفق سياسي جديد.
في هذا السياق انطلق المؤتمر الدولي لدعم حل الدولة الفلسطينية الذي تتزعمه فرنسا والسعودية ويشارك فيه حوالى 70 من رؤساء الوزراء والوزراء والمسؤولين، ومن المتوقع أن يصل عدد الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية 160 دولة.
ستصدر عن المؤتمر وثيقتان ورؤية مشتركة لما بعد حرب غزة.
تتعرض الوثيقتان لخطوات وإجراءات عملية كإنهاء السيطرة العسكرية على المساعدات الإنسانية ورفع الحصار المالي عن الحكومة الفلسطينية والإفراج عن الأموال المحتجزة، وإعادة الإعمار ووقف بناء المستوطنات ومسؤولية الأمن والوضع الانتقالي وشكل الحكم، كما نوه بذلك رياض منصور مندوب فلسطين في الأمم المتحدة.
الدولة والسلطة والمنظمة بما هي عناوين للشرعية الفلسطينية ولأي حل سياسي واقعي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تعتبرها حكومة نتنياهو وأكثرية أعضاء الكنيست نقيضاً لمشروع التهجير والضم والاستيطان والنهب.
وقد أعلنت حرباً لا هوادة فيها ضدها بدءا بتقويض مقومات الحل السياسي من خلال مصادرة الأراضي ونهب الموارد وتغلغل الاستيطان وتطهير عرقي، وتقطيع الأوصال بين المدن والقرى، وبسلسلة من القرارات والقوانين كقانون القومية الذي يعتبر حق تقرير المصير على مجمل أراضي فلسطين التاريخية حقاً حصرياً للشعب اليهودي فقط.
وقرار الكنيست الذي يرفض إقامة دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة العام 67. والقرار الذي يدعو الحكومة الإسرائيلية إلى ضم الضفة الغربية، إضافة إلى ممارسة التطهير العرقي من قبل منظمات المستوطنين الفاشية في 60% من أراضي الضفة الغربية وحظر دخول أصحاب الأراضي إليها بدعم من الجيش والحكومة.
كما تراجع الكنيست عن قرار الانفصال عن قطاع غزة وقرر إعادة بناء المستوطنات التي أزيلت شمال الضفة.
وتواصل الحكومة قرصنة أموال المقاصة واقتطاع الأموال المخصصة لعائلات الشهداء وللمعتقلين ولقطاع غزة من أموال الضرائب، وصولاً إلى تحويل قطاع غزة إلى مكان غير قابل للحياة توطئة للتهجير وفصله عن الضفة الغربية، في الوقت الذي ترفض فيه مشاركة السلطة في أعمال الإغاثة لشعبها المنكوب في قطاع غزة ورفض دورها في اليوم التالي، وانتهاء بتجريد السلطة من صلاحياتها. كل هذه القرارات والإجراءات تضع السلطة في موقع العاجز وغير القادر على تأمين أبسط احتياجات مواطنيها، ما قاد إلى زعزعة ثقتهم بها، ورغم كل ذلك يبقي امتلاكها للمسوغ السياسي المرتبط بحق تقرير المصير والخلاص من الاحتلال، وإقامة الدولة قائماً.
المسوغ الذي تشكل تاريخياً وأصبح ضرورياً للحل السياسي الذي يلبي الحق النسبي الذي يسمح به العالم والواقع، وعكس ذلك بالنسبة لدعاة الحق المطلق وجماعات يوتوبيا الدولة الواحدة والقوى التي تتبنى الأيديولوجيا الدينية الذين يرون في الشرعية عبئاً يجب التخلص منه بأسرع وقت ممكن.
كم هو مهم المؤتمر الدولي المنعقد حالياً من أجل ترجمة حل الدولتين في شقه الفلسطيني، الذي سيعزز شرعية التحرر من الاحتلال وقابلية الصراع للحل.  
وكم هو مهم إظهار إرادة المجتمع الدولي الملتزمة بإقامة الدولة الفلسطينية بديلاً للاحتلال، في مواجهة حرب الإبادة والتهجير والضم. لكن نجاح إرادة 83% من دول العالم التي تتبنى وتدعم إقامة دولة فلسطينية بالاستناد للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية يحتاج أولاً: إلى وقف عملية التقويض والاستباحة والتفكيك التي تمارسها دولة الاحتلال والتراجع عن الوقائع الاستعمارية، فلا يستقيم تقديم إسرائيل لحل فاشي عدمي للقضية الفلسطينية ومواصلة حرب الإبادة والتصفية والضم، وفي الوقت ذاته يتم إبرام اتفاقات سلام وتطبيع عربية وإسلامية معها.
ويحتاج ثانياً إلى بناء مقومات حل الدولة عبر المساهمة في إعادة الإعمار ودعم خطط تنمية على المستوى القريب والمتوسط وإنقاذ جهازي الصحة والتعليم في قطاع غزة وتحصيل حاصل في الضفة الغربية من الانهيار.
غير ذلك ستضاف قرارات المؤتمر الدولي الجديد للقرارات الدولية الداعمة للحقوق الفلسطينية المشروعة، دون تطبيق.
يضاف إلى ذلك أن دولة الاحتلال تتوعد بالرد على الاعترافات والقرارات الدولية الجديدة، بضم الضفة ووضع اليد على ما تبقى من عائدات الضرائب والدفع نحو انهيار مؤسسات وأجهزة السلطة لا سيما الصحة والتعليم والشؤون الاجتماعية.
عندما تتوحد 83% من دول العالم في دعم حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة دولته، فكم هو حري بجميع القوى السياسية أن تتوحد وتهيئ الشعب الفلسطيني لاستقبال الدعم الخارجي وتفعيله.
خلافاً لذلك، يبدو أن حركة حماس تمضي في مسار موازٍ وبديل، فهي تخوض المفاوضات مع إدارة ترامب ونتنياهو وتراهن على إنهاء الحرب والتوصل إلى اتفاق يخص قطاع غزة، متجاهلة عناصر الحل التي يتحدث عنها نتنياهو وترامب ومفاوضوهما ما بعد الـ 60 يوماً.  
من يتابع مقابلة القيادي في حماس غازي حمد مع التلفزيون العربي سيجد. أولاً: الانفصال عن الشرعية الفلسطينية الملاذ الوحيد للحركة، والانفصال عن الحل السياسي الذي تطرحه بدعم عالمي وعربي والذي يمكن أن يشكل مخرجاً للحرب، والاستعاضة عن الشرعية بالحديث عن الفصائل ومشاركتها وواقع الحال أن القرار تتخذه حماس وفي أحسن الأحوال تبلغ به الفصائل. ثانياً: الرهان على حل بضمانات وتعهدات ترامب وهي تعلم أنه يتطابق مع الشروط الإسرائيلية ولا يضيره تغيير موقفه في أي لحظة، في الوقت الذي تتجاهل فيه حماس الشروط التي يطرحها ويتكوف ووزير خارجيته وطاقم التفاوض الإسرائيلي، وهي نزع السلاح ومغادرة القيادة والكادر العسكري قطاع غزة والخروج من الحكم. ثالثاً: يقول غازي حمد إن حركة حماس تعكس في تفاوضها طموح وآمال الشعب الفلسطيني في إنهاء الحرب المروعة. شيء جيد إعطاء هذا الاهتمام بالشعب الذي جرى تجاهله معظم أيام الحرب. واقع الحال أن تقديم خطاب الدفاع عن الشعب يأتي للتغطية على استجداء مكان ودور للتنظيم.
لن تفلح حماس في محاولتها خوض تفاوض منفصل عن الشرعية الفلسطينية وعن المسعى العربي والدولي بضمانات لا يضمنها أحد.
والأجدر بها أن تكون جزءا من مشروع فلسطيني عربي دولي يملك فرصاً للخروج من حرب الإبادة. 

شاركها.