موقع مقالة نت
اهم المقالات التي تهم القارئ العربي

وفاء امرأة عُمانية: العجوز شُنُونة

0 18

أثير- مكتب أثير في تونس
وضّب القصّة وأعدّها للنشر: محمد الهادي الجزيري

نعود إلى تسعينات القرن الماضي ..وذكريات الأستاذ صالح البلعزي عن عُمان التي قضّى فيها ثلاث عشرة سنة ..، وسنكتشف خلال هذه الحكاية موهبته الاستثنائية .. “الراوي” التي يمتاز بها ..إلى جانب مهمّته التدريسية ..، اليوم وهو في سنّ التقاعد ..يحدّثنا عن “شُنُونة” هذه المرأة العجوز العُمانية التي كانت أوّل عاطفة فيّاضة ..ألهمته هذه القصة المؤثرة ..الطافحة بعزّة النفس وقوّة الكرامة والقناعة التّامة ..:
يا الله اخترتَ لي و لأسرتي قرية ” بُعد ” في أوّل رحلتي الى سلطنة عُمان، أستاذا يشحنه العزم للأخذ بعقول أطفال طيبين يؤُمون مدرسة هذه القرية الوديعة …، لم أكن أتوقع أن أنسجم بسرعة مع جبالها السوداء الصلعاء و مسالكها الخشنة و واحة نخيلها الساحرة، يعبرها فلج غزير ماؤه حنون ..،هناك مع آخر سطر نخل يلامس الأرض الصخرية البور، يقعُ كوخ صغير تآكلت جدرانه الطينية بفعل الزمن..، كوخ بنافذة صغيرة واحدة و بقايا باب من جذوع النخيل وسعفها، تصدر من داخله أصوات همهمات أو قلْ ما يشبه بكاءَ من لم يجد طاقة لرفع الصوت ..، كنت أنا و زوجتي نمرّ من أمامه، فلا طريق آخر يأخذنا إلى منزلنا المعزول هناك مقابل هذا الكوخ الغريب ..، كانت زوجتي أكثر مني إصرارا على فكّ رموز هذه الأصوات المترعة معاناةً، تخرج من شقوق الكوخ وكان لها ذلك..، ذات يوم عندما وجدت أمامها فجأة وهي مارّة .. عجوزا سمراء البشرة قصيرة القامة، غائرة العينين كأنّ بها عمًى وهي في أوج الابصار ..، ترتدي الزيّ العُماني التقليدي:سروال أخضر و فستان قصير تجمّعت عليه جلّ الألوان من أحمر و أخضر و أزرق وعلى رأسها لحاف من قماش خفيف من القطن يتدلى خلف ظهرها …

إنّها الأمّ شُنُونة.. ما يزيد عن ثمانية عقود من العمر، أذبلت نظارة وجهها و قوّست ظهرها، و لم تجن منها سوى عدوّين: الوحدة و الأحزان..، كيف لا وهى من إذا بكت يقف كل ذي كبد رطبة عن الحركة، تعاطفا معها دون قدرة على طرح السؤال عن سبب هذا الشجن و هذا البؤس ..، شُنُونة يا من تَماهيت بقسوة أحجار الوادي و هذه الغرابيب السود( الجبال)، سيأتي اليوم الذي أعرف فيه طوفان حزنك، هربتِ به عن أعين الناس في هذا الكوخ كأنه شيخ يلفظ آخر أنفاسه …شُنُونة رنّة في الاسم و أنّة تلو أنّة في صدر صاحبة الاسم …

تفطّنتْ إلى وجودنا أنا و زوجتي، لم تكلمنا اكتفت بإيصالنا بنظراتها إلى منزلنا ..، آه منك شُنُونة عرفت المنزل.. و في يوم من الأيام وجدتْكِ زوجتي في غفلة منها داخل المنزل جالسة القرفصاء أمام ابنتها الرضيعة رؤى، وأنتِ ترددين كلاما غريبا كالتراتيل أو بعض المراثي ..،اضطربتْ زوجتي و لم تخفْ..، نداء جاءها من أعماقها قال لها :”لا تسيئي الظن بشُنُونة ” فصدّقت النداء ..، حيّتْ صاحبة البيت ضيفتها فانشرح قلب هذه الأخيرة، وبكت.. أعادت على مسامعنا كل الهمهمات و الأنّات التي كنّا نلتقطها من فتحات الكوخ فنستغرب و نحزن …

فرحتْ شُنُونة بما وجدتْ من عطف من الأستاذة زوجتي، فأصبحت تحضر إليها كل يوم مجلسها عند رؤى وفي يدها منسج و كمّة رأس رجالية صغيرة كأنها تطرّزها بإتقان لطفل لم نره..، لم يحدث يوما أن وجدتُ شُنُونة في البيت، هي تعرف وقت عودتي من العمل في المدرسة الوحيدة بالقرية ..، يا لها من عزة نفسٍ فيك شُنُونة تأتي البيت لا تأكل شيئا ولا تشرب..، تجهدُ زوجتي نفسها لإقناعها بذلك فلا تسمع منها غير :” ما ريد ما ريد ” .. هي لا تريد شيئا من هذه الدنيا.. زاهدة مخشوشنة .. نعيمها في إلجام شهواتها… كأنّ شيئا ما مُرٌّ مَرَّ على حياتها.. فاقتلع كلّ رغبة و نسف بكلّ بهجة و حوّل انبهار العين بما وهبنا الله من خيرات نفورا و عزوفا…

أسأل زوجتي :”ماذا كان اليوم من شُنُونة ؟”فتردّ :” عندما تدخل شُنُونة البيت ينتفي أمامها العالم و يبقى منه فقط ابنتي الرضيعة رؤى ..، تجلس أمامها وهي في كرسيّها الورديّ… شُنُونة لا تملّ النظر إلى الرضيعة ورؤى كأنّ بداخلها فرحة أنْ وجدتْ رفيقة لها تمنحها فسحة اطمئنان ..، يا الله طفلتان تتبادلان ضربا من ضروب البراءة وهل بعد براءة شُنُونة براءة تبكي بلا موعد كالأطفال وتبتسم بلا مقدمات مثلهم.. يسكتها أي شيء تمسك به مثل أي رضيع ينبهر بما يمسك و شُنُونة دائمة الانبهار بهذه الكُمّة لا تفارق يديها تلاعبها بإبرة التطريز …كأنّها ترسم خرائط و طرقا ملتوية لا تستقيم أبدا …

طلبتُ من زوجتي فكّ لغز الكُمّة لا تفارق يد شُنُونة قالت لي : وكيف الوصول إلى ذلك و حديثها مبهم و قاموسها العُماني القديم عصيٌّ عن الفهم، تجلس الساعة تلو الساعة بين حديث حزين النبرة وبكاءٍ يعصرُ القلب فيشقى..، فهمت عنها بعد عظيم اجتهاد أنّ لها زوج قد مات ولها ولد تقول عنه “راح بيجي مرّة” وتتركني ورؤى، لتقف أمام المنزل عيناها نحو الآفاق مشدودة تضع يدها على جبينها علّها تتبيّن قادما ثم تعود إلى مجلسها أمام رؤى وهي تردّد:”ماشي ماشي” أي لا شيء لا شيء و ينحدر شبه دمعٍ من بقايا عينين …

وجاء اليوم الذي انكشف لي وزوجتي فيه لغز أحزان شُنُونة حدّثني به أحدهم: مات زوجها من زمان و ترك لها ولدا بلغ سنّ الصبى..، وفجأة سافر إلى دولة الإمارات العربية كبقية العمانيين في بداية سبعينيات القرن الماضي بحثا عن العمل ولم يعد ..، وبقيت شُنُونة تتوقع عودته و لم يعد ..،تسأل عنه شباب القرية فتتضارب الأخبار بين من يعلمها بوفاته ومن يخبرها بوجوده على قيد الحياة..، و بين اليأس والأمل قضّت شُنُونة عقودا من عمرها بين أنّات اليأس يسمعها من يمرّ بجانب كوخها، وشبعت من سماعها زوجتي والرضيعة رؤى..، وبين التحديق في الآفاق عسى يعود صاحب الكُمّة …، لم تفارق لسنين يديها.. تمسك بها كأنّها تحتضن ذاك الطفل/الابن الذي غادر ولم يعد…

اضف تعليق