يوم أن تنتهي الحرب ..سما حسن
أحلم كل ليلة بانتهاء الحرب، أحلم أنني سوف أستيقظ على قرار إنساني جريء يقضي بالإعلان عن وقف كل هذا الجنون، أضع رأسي على وسادتي وأنا أتمنى أن أستيقظ لكي أقرأ هذا الخبر، لأنني كل يوم أستيقظ لأقرأ أخبار الموت حيث القصف والدم والأشلاء والدموع، وحيث الخوف الذي يعربد في قلبي ونفسي طيلة الليل، وكأني أنام فوق ذلك السرير الخشبي بينما روحي وعقلي يسبحان أو يطيران نحو غزة، فأراني أتفقد أحبتي وأهلي، وإن كنت سأتحرى الصدق فكل إنسان في غزة هو حبيب وغال على قلبي، لأن غزة لا يمكن وصفها بالنسبة لي بأنها الوطن، ولكنها كل الحياة، ولا يمكن ان أحصل على عمر جديد لكي أبدأ فيها من جديد، ولذلك فأنا أتمسك بها كيفما هي، وأعيش على ذكرياتي فيها مع كل من عرفتهم وصادفتهم حتى لو بلقاء عابر، واعيش مع ذكرياتي مع الراحلين، وكان عزائي أنني أُقرئهم السلام حين أمر بقبورهم، وأشعر بأنهم يبادلونني التحية ويرسلون لي رسائل شوق وحنين.
رأيت قبل أيام شريطاً قصيراً مصوراً لسوق خان يونس القديم، فبكيت ولم أتوقف عن البكاء، وأعدت مشاهدة الشريط الذي تصحبه موسيقى تصويرية لإحدى أغاني فيروز الشجية التي تعبر عن الحنين لكي تزيد من حنيني ولوعتي. وعدت بالذكريات إلى تلك الطفلة الصغيرة التي كانت تمر بهذا السوق كل يوم مع جدها العجوز، فيما يمسك بيدها الصغيرة لكي لا تتوه في الزحام، فهي تستنشق رائحة السوق العتيق المختلطة برائحة التوابل والبهارات المعتقة والخضار الندية والفواكه الطازجة، وهناك رائحة لا يمكن ان تتخطاها لأنها علامة مميزة، فأنت حين تسير يجب عليك ان تنظر إلى موضع قدميك جيداً، لأنك سوف تلوث حذاءك إما بروث الحمير والأحصنة او ببقايا الفاكهة التالفة التي تخلص منها الباعة لكي يبقوا على منظر تلال الفاكهة المرتبة والمنتقاة بعناية التي يشدك منظرها من بعيد.
كانت جارتي تغبط أبي لأنه حسب قولها ينزل إلى السوق فيما الندى فوق رأسه، وتتساقط حوله على أوراق الشجر لكي يشتري أفضل الثمار والخضار، وإن دل ذلك على شيء حسب رأيها فإنه يدل على بحبوحة عيش، فيما يتوجه الناس الأقل رزقاً إلى السوق في ساعات الظهيرة، وحيث يبدأ الباعة في التململ للتخلص من بقايا بضاعتهم، فتنزل أسعارهم ويقبل مثل هؤلاء الناس عليهم، ولكن أبي وامثاله يكونون قد حظوا بالأفضل.
كنت أتيه فرحاً وفخراً وأشكر الرب على نعمته حين تتحدث جارتي بهذه الملاحظة الذكية، وكان سوق مدينة خان يونس الرئيسي الذي يجمع معظم أهل المدينة مع قراها الشرقية، وحيث يأتون لبيع منتجاتهم من زيت الزيتون واللوز الأخضر وأوراق العنب وغيرها، ليكون هو السوق الأكبر في المدينة، قبل أن تتوسع المدينة وتضاف إليها أحياء سكنية محاذية لمخيمها، ويتم افتتاح سوق آخر يعرف بالسوق الغربي ليخدم أهل المخيم المحاذين لشاطئ البحر، وكذلك الحي السكني الأوسع المعروف بحي الأمل.
اليوم أيضا أرى الأسواق فارغة، حيث تدور كاميرا لناشط شبابي في سوق المدينة الشرقي أو الغربي، أو يلتقط أحد المصورين صوراً حزينة ومؤلمة لبسطات خشبية متهالكة ومهشمة لقلة البضائع، وفيما يخلو السوق من العربات المميزة التي كانت تجوبه وهي عربات الحمير والأحصنة، لأن مرتادي السوق قد قلوا ولم يعد هناك بضائع لتشترى، وفيما نخر الفقر جيوبهم وأصبح المال عزيزاً فقد مات السوق فعلياً كما ماتت المدينة وتحولت إلى ركام وأنقاض.
مازلت أحلم كما قلت لكم لأنني قد وصلت لمرحلة التخمة مثل أي انسان قد تناول الطعام دون تفكير حتى غص به وكاد يموت، وحتى لم يعد لديه مجال لكي يتنفس، والآن فأنا قد أصبحت مثله بوجع لا يُحتمل، بعدما أصاب مدينتي الحبيبة وأهلي الكرام الذين أصبحوا يقضون يومهم في البحث عن لقمة، وفيما يقف العالم متفرجاً على ناصية التاريخ الذي سيكتب أسوأ كارثة إنسانية، تبدو الشوارع شاهدة ويقف السوق في المدينة كشاهد أول على كل ما مر بهذا الشعب الذي كان كريماً ولم يشعر بالجوع يوماً، بل كان يصدّر إلى الجوار خيره الذي لا مثيل له، حتى يشهد القاصي والداني بحلاوة ثمر أرضه وطيب ما تنتجه أيدي أولاده.