إن أى متابع أمين لأحداث غزة، لديه ذرة من الإنسانية، بصرف النظر عن جنسيته لا بد أن يأمل فى التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وإعادة مظاهر الحياة الطبيعية إلى سكان القطاع، ووقف المعارك، بما يؤدى إلى الإفراج عن الرهائن والمحتجزين، تمهيدًا لإنهاء الاحتلال الإسرائيلى وإقامة دولة فلسطينية، بحيث يعيشان فى أمن وسلام بين الدولتين.

ومع أهمية بل ضرورة التحرك لوقف المعارك وإنهاء النزاع، لاعتبارات إنسانية وبما يعنى تمكين الشعبين من التعبير عن هويتهم السياسية، لا يخفى على العرب والإسرائيليين وغيرهم أن الحكومة الإسرائيلية الحالية لا تؤمن بحل الدولتين، وهو الموقف المعلن على لسان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، كما أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وفقًا لتصريحات إسرائيلية، يُعد من أقرب المقربين لإسرائيل، ومن ثم الظروف العامة صعبة والتوقعات غير مرتفعة والاحتمالات مليئة بالمخاطر والكبوات المحتملة.

ويتفق المحللون جميعًا على أن تنفيذ أى اتفاق أمنى خاص بغزة يتطلب موافقة إسرائيلية وكحد أدنى، موافقة حركة حماس، رغم أن من العناصر الأساسية فى المقترحات مطالبة حماس بنزع سلاحها وخروجها من الأدوار الرئيسية المهيمنة فى المشهد الغزاوى، وهو ما أقر به كبير مفاوضى حماس.

وإنما عناصره ومراحله المتعددة تعنى أن الاتفاق المقترح يستهدف فلسطينيًا حماس، وأهالى غزة، والسلطة الفلسطينية فى الضفة الغربية، وحتى فلسطينيى الشتات.

ونحن أمام حسابات دقيقة وقرارات مصيرية تتعلق بمستقبل القضية الفلسطينية، تعنى الفلسطينيين أولًا، وإنما تؤثر نتائجها على الساحة العربية والإقليمية بصورة واسعة.

وجاء رد حماس إيجابيًا وذكيًا فى مضمونه، بالموافقة مبدئيًا، مع التمسك أيضًا بمناقشة عدد من النقاط للتوضيح والتثبيت، وقد فسّر البيت الأبيض الرد على أنه خطوة إيجابية.

يُعد الحق الفلسطينى بالنسبة لى كمصرى وعربى وآخرون قضية شخصية ووطنية وإقليمية، وإنما أصحاب القرار فيها هم الفلسطينيون أنفسهم، ودورنا هو توفير الدعم والمشورة الصادقة، كما فعلنا طويلًا مع منظمة التحرير الفلسطينية، ثم مع السلطة تحت قيادة المرحوم ياسر عرفات وبعده محمود عباس.

من هذا المنطلق نطرح فيما يلى بعض الملاحظات والتوصيات للتعامل مع المعطيات المعقدة والمرحلة الحساسة والأولويات المتنافسة، مع احترام أن القبول أو الرفض أساسًا للطرف الفلسطينى:

يسعى الفلسطينيون بأغلبية ساحقة إلى إنهاء دوامة العنف والحرب فى غزة، ويحرصون على ألا تكون أى صفقة على حساب السلام الدائم القائم على إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة.

يظل حل الدولتين، الذى أقرّه معظم المجتمع الدولى، المسار الوحيد الحاسم والمستدام نحو السلام، حتى بالنسبة للحكماء فى إسرائيل خارجً الحكومة.

إنما ترفض الحكومة الإسرائيلية، بقيادة نتنياهو، حل الدولتين، ما يُلقى بظلال من الشك على صدق وجدوى أى اتفاق سلام طموح التوجه، ويزيد من القلق حول عدم التزام إسرائيل باستكمال الطريق بعد الإفراج عن الرهائن.

كما أن تحالف ترامب الوثيق مع إسرائيل، ومواقفه المتناقضة، مثل معارضة ضم الضفة من جهة ودعم إسرائيل بقوة من جهة أخرى، كلها أسباب لانعدام الثقة لدى الفلسطينيين، وتحريفات نتنياهو العلنية فى تفسير بنود الأمن ونزع سلاح حماس زادت من سلبية التقييم.

طرحت إدارة ترامب مقترحاتها بشأن غزة فى صيغ متعددة تتراوح بين 20 و22 نقطة، حسب مصدر المستند والخبر، وتختلف قليلًا باختلاف الجمهور المستهدف، علمًا بأن النسخة الأولى عرضت على تجمع عربى وإسلامى، الذى رحب بها، مع إبداء توضيحات علانية لحماية المصالح الفلسطينية، تضمنت رفض التهجير والترحيل أو ضم الأراضى، وإقامة دولة فلسطينية، وتوفير مساعدات إنسانية فورية، وانسحاب إسرائيلى وضمانات وحقوق الإنسان، وهذا هو النص المسلم لـ«حماس».

وبعد مشاورات مع نتنياهو، أعلن ترامب نسخة منقحة تؤكد الصلاحيات الأمنية لإسرائيل ونزع سلاح حماس، ما اعتبره الفلسطينيون تحولًا سلبيًا يزيد من السيطرة الإسرائيلية، وجعل المبعوث الباكستانى يعلن صراحة أن ما أعلن لا يتطابق مع الذى نوقش معهم.

إضافة إلى ذلك، فإن الجدول الزمنى المرجح لتنفيذ الخطة طويل الأمد يمتد إلى ما بعد رئاسة ترامب، ما يثير مخاوف بشأن اختلاف الروئ داخل أمريكا ومماطلة إسرائيلية سعيًا للاستفادة من المعارك الانتخابية الأمريكية.

مع هذا وافقت حماس على المقترح الأمريكى، مع التمسك بإجراء مشاورات وتوضيحات حول آلياته وبعض البنود، والمطلوب الآن هو تحصين الموقف الفلسطينى حول غزة وما بعدها، وتتوافر أرضية لا بأس منها لتحقيق ذلك إلى حد ما بالنسبة لعدد من البنود والمواقف التى تضمنها المقترح.

ومن عناصر التأمين والتحصين إشارات دولية واضحة ومتنامية باعتراف الدول بالدولة الفلسطينية، بالأمم المتحدة ورفض ترامب فى تصريحاته ضم الضفة، والتمسك بالنص الأصلى للمقترح والمسلم من المجموعة العربية الإسلامية، والبيان الرسمى الصادر عن هذه المجموعة فور الإعلان عن المقترح، وكذلك البيان العربى الإسلامى الصادر ردًا على نتنياهو بعد لقائه مع ترامب، وما صرح به ترامب خلال الساعات الأخيرة أن هدفه وتطلعه إلى السلام الشامل والأمن والأمان فى الشرق الأوسط.

هناك تأييد دولى واسع أن المسار كله يجب أن يكون له سمات وهوية فلسطينية. وأن أى ترتيبات إنسانية يجب أن تكون تحت مظلة الشرعية الدولية، وقد فتح الاقتراح الأمريكى الباب لذلك، ووجود قوات دولية ستحتاج حتمًا إلى تصديق أو دعم دولى واسع.

ومن أجل استدامة أى اتفاق بما يتجاوز العوامل المتغيرة السياسية، إذا قرر الموافقة الكاملة بعد التشاور قد ينظر فى أن يطالب الفلسطينيون بصدور قرار من مجلس الأمن يؤكد الاتفاق، ويضع فرصة لتسجيل المواقف بالتفصيل، وهو ما قام به مسبقًا منذ أشهر على مشروع قرار أمريكى، لإعطاء الزخم السياسى والتفسير السليم لضمان تنفيذه حتى بعد إدارة ترامب، بما يحمى الحقوق الفلسطينية ويضمن سلامًا دائمًا.

الخلاصة

يعكس الرد الفلسطينى على مقترحات ترامب أن هناك رغبة فى التجاوب الإيجابى، رغم التناقض أحيانًا بين الحاجة الملحّة لإنهاء الأعمال العدائية، وبين ضرورة حماية الحقوق الوطنية والسيادة، وعدم الاطمئنان للموقف الإسرائيلى.

وبينما يُعد السلام والاستقرار فى غزة هدفًا ملحًا، والقراءة السياسية الدولية والإقليمية مزعجة ومقلقة وغير مواتيةُ للتفاؤل أو الاطمئنان للغير، ليس غريبا أن يطالب الفلسطينيون والمؤيدين لهم أن يستند أى حل دائم إلى الاعتراف بحقوقهم الوطنية وعلى إطار حقيقى وضمانات لحل الدولتين، خاصة ومطلوب منهم أو على الأقل من حماس اتخاذ مواقف جوهرية بالنسبة إلى دورها.

ويمكن تحقيق ذلك بإصدار قرار من مجلس الأمن يسجل أو يأخذ علمًا بالاتفاق، وهى خطوة اتخذتها أمريكا ذاتها بالنسبة لمبادرة لها سعيًا لوقف إطلاق النار، مع العلم أن رد الفعل الروسى المبدئى للمبادرة كان منفتحًا، خاصة المقترح تضمن دورًا لمؤسسات المنظمة ويتحدث عن وجود قوات دولية بالقطاع.

فى نهاية المطاف، يتطلب تحقيق السلام الدائم التوفيق بين هذه المتطلبات المتضاربة، من خلال عملية سياسية شفافة وعادلة ومدعومة دوليًا، وربنا يوفق الفلسطينيين، ويحقق لهم والعرب والشرق الأوسط الأمن والأمان.

شاركها.